ربيع "معرفي" عربي

13 مارس 2017
+ الخط -
على الرغم من حالة التشاؤم التي دخلتها المنطقة العربية، نتيجة انتكاس ثورات "الربيع العربي" في أكثر من بلد، إلا أن ثمة ومضات تأتي من هنا وهناك، تجعل الأمل قائما في أن تتجاوز مجتمعاتنا هذه الانتكاسة المؤقتة، وتعيد تحرير ذاتها بعد اكتشافها وتفكيكها معرفياً ومنهجياً. من هذه الومضات ما يبدو وكأنه "ربيع معرفي عربي"، تبدو إحداثاته ظاهرة، بل ومتزايدة، في أكثر من مناسبة وجهة. من هذه الجهات المجلس العربي للعلوم الاجتماعية الذي تم تأسيسه قبل انطلاق موجة "الربيع العربي" بعدة أعوام (أواخر عام 2008)، ولكنه أصبح أكثر نشاطاً وحيويةً بعد الانتفاضات العربية. وقد حدّد "المجلس" مهمّته بوضوح في "تدعيم البحث وإنتاج المعرفة فى مجال العلوم الاجتماعية فى المنطقة العربية... ودعم الباحثين ومؤسسات البحث العلمي والأكاديمي"، وذلك حسبما تقول رسالة المجلس المنشورة على موقعه الإلكتروني. لا يتبع "المجلس" أية مؤسسة حكومية أو شبه حكومية عربية، وهو مبادرة معرفية تقودها مجموعة من الأكاديميين العرب الذين ينتمون لتخصصات بحثية وأكاديمية متنوعة، تعكس التزاماً بحثياً وأخلاقياً تجاه هذه المنطقة وقضاياها.
ليس الهدف هنا الحديث عن "المجلس"، فموقعه الإلكتروني غنيٌ بالتفاصيل اللازمة عن أهدافه، وأنشطته، وإدارته، ومصادر تمويله، لكن ما يلفت النظر هو الذكاء المعرفي للمجلس في التقاط نقاط الضعف في المجال البحثي العربي، ومحاولة تفكيكها، وفهم أزمتها، أملاً في البحث عن حلول لها، وهو ما يتجسّد في الموضوعات التي يطرحها المجلس للنقاش، والتي تتجاوز الأطر الكلاسيكية التي اعتدنا عليها طوال العقود الماضية. وقد بدا ذلك واضحاً في المؤتمر الذي يعقده المجلس كل عامين، وانعقدت دورته الثالثة في بيروت الأسبوع الجاري، وسعدت بأن أكون أحد المشاركين فيه، ثلاثة أيام متواصلة، كانت أشبه برحلة فكرية ومعرفية وإنسانية مكثفة.

تم اختيار موضوع المؤتمر لهذا العام بعناية وذكاء، يتماشى مع مهمة "المجلس" الذي يسعى إلى الاشتباك مع قضايا المنطقة وهموم أهلها، من خلال طرحها للنقاش الأكاديمي والعلمي الرصين، بعيداً عن التناول المختزل أو الاستشراقي لها. فقد حمل العنوان اسم "الدولة والسيادة والفضاء الاجتماعي في المنطقة العربية: قراءات تاريخية ومقاربات نظرية جديدة". لا يخلو عنوان كهذا من دلالات عديدة، وربما مقصودة، أولها، طرحه قضية ملحّة تتعلق بالأزمة المركبة التي تعيشها الدولة العربية حالياً، والتي تظهر تجلياتها بوضوح في المشرق العربي الذي يتصدّع بشكل تدريجي، ولا يدري أحد متى وأين سيتوقف هذا التصدّع. ثانيها، أن طرح هذه المسألة جرى من خلال مقاربات عابرة للتخصص بين فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية المختلفة (سوسيولوجيا، أنثروبولوجيا، علوم سياسية، علاقات دولية، تخطيط عمراني، الآداب.. إلخ)، وهو ما أثرى النقاشات، وساهم ليس فقط في إيجاد مناخ معرفي محفز للتفكير والإبداع، وإنما أيضا ساهم في تشبيك الباحثين العرب المهتمين بهذه القضايا بضعهم مع بعض، وهو ما سيكون له أثر مهم على التواصل المعرفي والبحثي مستقبلاً. وثالثها، أن المداخلات والمقاربات تجمع بين النظري والميداني، وهو ما جعل النقاشات حيّةً، وفيها جرعة كبيرة من الدسم المعرفي نظرياً وميدانياً.
بيد أن أفضل ما شهده المؤتمر مشاركة شباب باحثين عرب، زاد عددهم عن المئتي باحث وباحثة، جاؤوا من مختلف الدول العربية، بعضهم من جامعاتها، وآخرون من جامعات غربية متنوعة، طرحوا، على مدار ثلاثة أيام، قضايا معرفية كثيرة تهم المنطقة العربية، وذلك في موضوعات شتّى تتعلق بقضايا الدولة والمجتمع والأمن والفضاء العام والسلطوية والمقاومة والتنمية والسيادة وإنتاج المعرفة والهجرة والمرأة والتعليم والمواطنة والدين والديمقراطية والتعبئة والاحتجاج... إلخ.
الأكثر من ذلك ما لمسته من تواصل جيلي بين الباحثين العرب، فقد حضر جيل شيوخ الباحثين والمثقفين، فألقى المفكر اللبناني غسّان سلامة كلمة عميقة تحثّ على التفكير والتأمل، اختار لها عنواناً ذكياً هو "عطش للدولة وريبة منها"، ولا تحتمل المساحة ذكر أفكارها ولمحاتها الكثيرة. كما أثرى الأنثروبولوجي المغربي، عبد الله حمودي، النقاش بأطروحاته وتعليقاته. وأثارت مداخلات المفكر السوري، عزيز العظمة، قدراً من الحيوية والاشتباك مع موضوعة الدين والدولة وعلاقاتها بما يحدث في المشرق العربي، وإن لم يتفق كاتب هذه السطور مع بعض ما ورد في مداخلات المتحدثين في هذه الجلسة، لأسباب منهجية ربما يأتي وقت آخر لطرحها. كذلك حضر جيلا الوسط والشباب الذين لا يتسع المقام لذكرهم/ن رجالاً ونساء، والذين طرحوا مداخلاتٍ بحثية ذكية، وعبر استخدام مناهج بحثية رصينة. وكأن الشباب العرب الذين حرّكوا مياه السياسة الراكدة قبل ستة أعوام قد انتقلوا الآن إلى تحريك المياه "المعرفية" الراكدة من خلال الاشتباك في قضايا كثيرة، كانت، حتى وقت قريب، من المسلمات في الفضاءين البحثي والأكاديمي العربي.
لا يخلو العالم العربي الآن من مبادرات جريئة، مثل مبادرة المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، وثمّة مبادرات أخرى على المستويين، الأكاديمي والمعرفي، سوف يأتي صاحب هذه السطور على ذكرها لاحقاً، سوف يكون لها دور مهم ومؤثر خلال السنوات المقبلة في إعادة صياغة ليس فقط الفضاء المعرفي والبحثي العربي، وإنما أيضا المجتمعات العربية، ما قد يبشّر بنهضةٍ فكريةٍ عربيةٍ، طال انتظارها.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".