الدولة والمجتمع في السعودية.. من يصنع الثقافة؟

12 مارس 2017

من أجواء معرض الكتاب في الرياض (17/3/2017/فرانس برس)

+ الخط -
تلجأ الجدالات في السعودية، ومن بينها الجدال الحالي حول شكل الترفيه وحدوده، بشكلٍ مُستمر، إلى الاستناد على فكرة قبول المجتمع أو رفضه (شيئاً ما). لكن، ما معنى قبول المجتمع أو رفضه، إذا كان هذا الشيء يحدث، عندما يحدث، بسبب قرارٍ حكومي ولا يحدث بسبب امتناع القرار الحكومي؟ 

الحقيقة أن الحديث عن رغبة المجتمع في شيء ما "بعد" أن تُقرّه الحكومة، أو عن رفض المجتمع، أو "عدم جاهزيته" لشيء ما، عندما تمنعه أو لا تُقرّه الحكومة، هو بدوره استخدامٌ بعديّ للمجتمع، بوصفه مبرّراً إحصائياً شكلياً لقرار اتُّخذ سلفاً في معزل عن الأدوات والممارسات الديموقراطية، ولاعتباراتٍ مختلفةٍ، يختلط فيها السياسي والشخصي والاجتماعي. لكن المهم هنا أن تأثير القرار الحكومي في المجال الثقافي مختلفٌ عن تأثيره في باقي المجالات، إذ يمكن للقرار الحكومي أن ينجح في فرض وضعٍ معينٍ في المجالات التي تحتكرها مؤسسات الدولة، لكن الحكومة تواجه صعوبةً شديدةً في محاولتها احتكار المجال الثقافي، والانفراد بصناعته. تتولى الدولة عادة إنتاج المواطن ثقافياً عبر أدواتها التقليدية التعليمية والإعلامية والقانونية، وتذهب بعض الدول خطوةً أبعد في محاولة لاحتكار المجال الثقافي، عبر تدخلها في صناعة النشر، وتمويلها المؤسسات، ورعايتها المثقفين، وتنظيمها الفعاليات وقيادتها التوجهات، واستحواذها على كل فكرة بازغة أو تجربة جديدة، لكنها على الرغم من هذا كله تعجز عن احتكار المجال، لأنها تظل عاجزة عن احتكار الأدوات، لسبب تقنيّ أساساً، وهو تطور أدوات الإنتاج والنشر والتواصل. لم يعد المجتمع ينتظر الحكومة، لتقرر أخذه في اتجاه معيّن، أو وضعه في مواجهة مشكلة محدّدة، أو تعليمه شيئاً جديداً.
المجتمع اليوم لا ينتظر الحكومة ثقافياً، ولا ينتظر تقنينها وتنظيمها ورعايتها الثقافة، وهذا هو
الوضع الطبيعي، لأن الثقافة أكثر حيويةً وأشدّ التصاقاً بالناس، بما أنها أسلوبهم الطبيعي للتعبير عن أنفسهم، من أن تخضع لأدوات الدولة. الوضع الطبيعي أن يتعلم الناس الموسيقى، ويعزفون في الأماكن العامة، ويرسمون اللوحات على قارعة الطريق، وينحتون ويكتبون الشعر ويصممون الرقصات، ويستخدمون كلّ طاقة ومادة متاحة للتعبير عن أنفسهم. الوضع الطارئ أن تحتاج كل ممارسةٍ ثقافيةٍ إلى ترخيص وموافقات رسمية وتمويل حكومي، والطبيعي يغلب الطارئ مطلقاً.
لهذا يتزايد اليوم في السعودية عدد من يتعلّمون، بجهد ذاتيّ، العزف على العود والغيتار والبيانو، في دولةٍ لم تدخل الموسيقى ضمن مناهجها التعليمية الرسمية في المدارس، منذ تأسّس التعليم العام، وتزدهر الحركة التشكيلية بين الهواة، حيث لا توجد معاهد للفنون الجميلة، ويذهب محتوى "يوتيوب" بعيداً جداً في غرابة قِيَمهِ ومضامينه، ومستوى تخصصيّته التي تخاطب مختلف الثقافات الفرعية، وحتى في أساليبه في الإنتاج والتنفيذ، ولم يعد الجدل الـمُسيطر على الشباب هو "هل الأغاني حرام؟" كما كان قبل ثلاثين عاماً، بل أيّ نوع من الأغاني نسمع؟ وكلما توسّعت "الثقافة الرسمية"، بحدودها وضوابطها الثقيلة، وتمركزت أكثر في المجال الثقافي، وحاولت الاستحواذ على مساحاتٍ أوسع، قاومها الهامش الـحُرّ بإنتاج مزيد من التعبيرات، وتوظيف مزيد من الأدوات، حتى أصبحت "الثقافة الرسمية" تجهد للّحاق بالهوامش الثقافية، والوزارة تحاول أن تأخذ شيئاً من شعبية الفرد.
عندما تجادل اليوم دفاعاً عن الفعاليات الفنية في السعودية بالقول "إن المجتمع تعرّض إلى تشويه عميق" أو "أصبحنا مجتمعاً متجهماً غير طبيعي يثير استغراب العالم"، فالحقيقة أنك تنسب إلى المجتمع صفات غيره، وتحمله مسؤولية قراراتٍ لم يأخذها، وتتبلور قمة الخلط بين المجتمع والدولة، عندما يُنسب التجهم وغياب الفنون في الفضاء العام إلى المجتمع، ويُنسب ازدهار الفنون إلى الحكومة، والمجتمع، في حقيقته، لم يختر التجهم، ولم يمارسه في حياته الخاصة، مثلما أنه لم ينتظر القرار الحكومي، ليتعرّف على الفنون أو يستمتع بها.
آخر فقرة في نقد بعض مفاهيم الجدل السعودي حول الفنون، أن الدفاع عن الفنون يحدث أغلبه بطريقةٍ تفتقد إلى الإحساس بالفنّ. فقد صنعت المصادفة البحتة من الفنّ موضوعاً للتناقض بين
الدولة والمليشيا، والعنف والسلم، والإكراه والحرية، فقط لأن المصادفة جاءت بخصم أيديولوجي، مثل "القاعدة" و"داعش"، وتصادف أن لهذا الخصم موقفا عدوانيا من الفنون. أفضت هذه المواجهة إلى اختراع صفاتٍ جوهرية للفنّ، وإسباغها عليها قسراً بطريقةٍ تشي أن المدافع عن الفنّ يهتمّ بكونهِ سلاحاً أيديولوجياً أكثر من اهتمامه بالفن حقيقة. أشهر هذه المجادلات التي أشبِعَت سخريةً وضع الموسيقى في مواجهة الإرهاب: "حاربوا الإرهاب بالموسيقى"! وهي المقولة التي لا علاقة لها بجوهر الموسيقى التي كانت حاضرةً على الدوام في كلّ مكان، بما في ذلك في وجدان كبار الساسة السفاحين، وفي خدمة تمجيد الحروب والقتل، لكنها (المقولة) محضُ نتاج للمصادفة الاجتماعية السعودية (غياب الفنون، حضور العنف).
من المقولات الأخرى التي لم تتعرّض للنقد الكافي إسباغ صفاتٍ جوهرية على الفنّ باعتباره انحيازاً مطلقاً "للحياة والبهجة والفرح"، والعبارات الممجوجة التي تكرّر هذا بلا تفكير تشي أن قائلها المتشنّج يعدم الحسّ الجمالي الذي يسمح له بفهمٍ أعمق للفنّ من وظيفته الاحتفالية الراقصة. الفنّ تعبير جماليّ عن كل شيء، حرفياً، بما في ذلك النوازع البغيضة، إلى تدمير الذات أو الآخرين، هناك فنّ يحتفي بالموت والقتل والإبادة، وهناك أغانٍ عن جماليات الانتحار، وآدابٌ موضوعاتها السوداوية والاكتئاب، ومنحوتاتٌ تطفح بالعذاب، وهناك فنّ ديني ومقابله فنّ تجديفي، وهناك فنّ ذكوري واستعماري في غاية الجمال، وهناك فنّانون رائعون انتهوا إلى قتل أنفسهم أو مساندة السفاحين والمتعصبين، أو تدمير ذواتهم وهم أحياء.
الفنّ جميل وحسب، وهذه صفته الجوهرية الوحيدة، وأيّ صفةٍ أخرى تقصره على المزاج الاحتفالي محض إقحام لذلك، فإنّ النقاش الفنّي يكون عادة حول موضوعات الفنّ، وغياب مثل هذا النقاش حول موضوعات الفنّ يفتح الباب نحو سؤالٍ أهمّ وأخطر، وهو سؤال ما الذي يدمّر الفنون أكثر: غيابها... أم إخضاعها وإخضاع محتواها؟
@Emanmag
avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع