"الفوضى"... نظام عالمي جديد يقوده ترامب

06 فبراير 2017
+ الخط -
يتجاوز وصول شخص موتور، مثل دونالد ترامب، إلى أهم منصب سياسي في العالم، مجرد تغيير في هرم السلطة في الولايات المتحدة. وإنما بالأحرى تغيير في كثير من ثوابت اللعبة السياسية وقواعدها على المستويين المحلي والدولي. وهو إن استمر سلوكه على هذا النحو طوال السنوات الأربع المقبلة، فسوف نشهد قطيعة كاملة مع إرث النظام الدولي الذي ظل سائداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سواء في طبيعته الليبرالية التعدّدية، قيماً ومؤسسات وثقافة، أو في طبعته الأحادية التي سادت طوال العقود الثلاثة الماضية.
وبينما كان بعضهم يرى في ترامب مجرّد شخص أرعن (وربما أحمق) يمتلك المال، والآن السلطة، إلا أن سلوكه وقراراته، منذ تنصيبه في الحادي والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي، يكشف أننا إزاء رجل يعرف جيداً ما يقوم به، ولديه رؤية وأجندة سياسية وإيديولوجية واضحة، يريد إنفاذها وتطبيقها على الأرض بأي ثمن. وإذا كانت هذه الرؤية قد تبدو خروجاً عن النسق الأميركي المألوف، فإن الرجل لا يُخفي سراً بأن هذا "الخروج" هو أحد أهدافه الرئيسية. ولعل منبع المعارضة القوية لترامب، خصوصاً في الأوساط الليبرالية واليسارية، ومنصاتها الإعلامية مثل CNN وMSNBC، هي سعيه إلى جعل "غير المألوف" أمراً معتاداً، ونقل "اليمين" إلى "الوسط"، وتثبيته كي يصبح لاحقاً التيار الرئيسي أو الـ mainstream الذي يجب أن تسير عليه أميركا والعالم.
بكلمات أخرى، المعركة الرئيسية التي يخوضها ترامب، هي جعل ما يراه بعضهم "حالة استثناء" في السياسة واللغة والإيديولوجيا، أمراً معتاداً ومألوفا يجب قبوله من دون مساءلة أو مقاومة. ينطبق ذلك على مسائل داخلية وأخرى خارجية، حوّلها ترامب إلى مادة للتجاذب
والاستقطاب والانقسام غير المسبوق محلياً ودولياً. لذا، يخطئ من يظن أن ترامب يتصرف بحماقة أو بعفوية غير محسوبة. على العكس، هو يحسب خطواته جيداً، ويعرف عواقب قراراته. وهو يتبع سياسة "الإدارة بالصدمة"، ويتبنى سياسة مهاجمة (وإرباك) الخصوم التي لا تدع لهم فرصةً لالتقاط أنفاسهم، ويمتلك القدرة على تشتيت جهودهم، من خلال نقل المعركة من المتن إلى الهامش، ثم العودة إلى تحويل هذا الهامش إلى متنٍ وأصل للصراع، فينشغل الجميع بالهامش، وبالتالي يحقق هدفه من المناورة.
خذ، على سبيل المثال، قراره بحظر دخول اللاجئين السوريين ومواطني سبع دول عربية وإسلامية الولايات المتحدة، في سابقة لم تحدث طيلة تاريخ أميركا أو أية دولة غربية. ليس القرار محاربة "الإرهاب الإسلامي" كما يصفه ترامب، وإنما بالأساس وقف مسألة الهجرة، باعتبارها تمثل تهديداً وجودياً للجماعة البيضاء في أميركا، وحماية "العِرق الأبيض" باعتباره الأسمى بين غيره من الأعراق التي تشكل الأمة الأميركية. وقد اختار الرجل بذكاء أحد أكثر الحلقات ضعفاً لتحقيق هدفه، وهي المسلمون سواء داخل أميركا أو خارجها. وهو يحاول، مثل أي زعيم سلطوي، تبرير قراره بـ"الحفاظ على الأمن القومي للبلاد"، وهي العبارة نفسها التي يكرّرها الحكام الديكتاتوريون والسلطويون، بدءاً من كيم يونغ أون ديكتاتور كوريا الشمالية، مروراً ببشار الأسد، وانتهاء بالجنرال عبد الفتاح السيسي.
خذ أيضا تصريحه الذي تعهد فيه بتحطيم القانون الذي يمنع الكنائس الأميركية من دعم السياسيين، خصوصاً في الحملات الانتخابية، والمعروف "بتعديل جونسون" الذي تقدّم به السيناتور والرئيس الأميركي الأسبق، ليندون جونسون عام 1954. وقد حاول ترامب تغليف تصريحه هذا بحماية الحريات الدينية وإعطاء الحق للمؤسسات الدينية، للتعبير عن تفضيلاتها السياسية، علما أن القانون لا يمنع رجال الدين من ذلك. ولكن ترامب كان يغازل اليمين الديني، بشقيه المحافظ والمتطرّف، خلال حفل الصلاة الوطني الذي يقام كل عام. وإذا حدث، فسوف يمثل ذلك ضرباً لمبدأ الفصل بين الدولة والكنيسة في السياق الأميركي، ما قد يفتح الباب أمام صراع ديني وطائفي غير مسبوق في الولايات المتحدة. خذ أيضا تصريحاته أخيراً ضد إيران التي وضعها "تحت المراقبة"، في استحضار لأجواء الاستقطاب والتوتر الذي ساد إبان فترة الرئيس جورج دبليو بوش. وهو هنا يريد توجيه رسالة قوية لطهران بضرورة الحذر ولجم سلوكها، وإلا فإن العقاب سيكون شديداً وفورياً. كذلك خذ مكالمته الهاتفية مع رئيس الوزراء الأسترالي، مالكوم تيرنبول، والتي انتهت بشجار وإغلاق للهاتف بشكل فجائي بعد أقل من نصف ساعة من المكالمة التي كان من المفترض أن تستمر حوالي ساعة. وقد ثار ترامب بسبب رفضه الالتزام باتفاقٍ كانت إدارة أوباما قد وقّعته مع أستراليا، بنقل مهاجرين آسيويين إلى أراضيها.
يعكس سلوك ترامب داخلياً وخارجياً محاولة واعية لإعادة تعريف السياسة، وتحويل كل ما هو ثابت ويقيني إلى فوضى، تمهيداً لتثبيت رؤية محدّدة للعالم، ولدور أميركا فيه. وهو هنا يريد إعادة تعريف أسس العلاقات الدولية، ويسعى، بكل قوة، إلى اقتلاع ثوابتها من جذورها، لكي تحل محلها ثوابت أخرى، نابعة من رؤية راديكالية لعالم فوضوي، لا مكان فيه إلا للقوة العارية بكل معانيها وأشكالها. وهو يفعل ذلك ليس اعتباطاً، وإنما بدوافع يراها مشروعة، بل وضرورية لجعل أميركا "عظيمة مرة أخرى"، بحسب شعاره الذي لا يتوقف عن ترديده.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".