سورية.. الإجرام ممارسة سياسية

20 فبراير 2017
+ الخط -
قبل انطلاق الثورة السورية بوقت قصير، التقى مسؤولون أمنيون من أعلى المستويات بمعارضين معتقلين، وأخبروهم بما سيجري في سورية من فظاعات وويلات، في حال وقعت فيها ثورة، أو نزل مواطنوها إلى الشارع محتجين. قالوا ما مختصره: لن يكون ما جرى في ليبيا من دمار وقتل غير مشهد إنساني مفعم بالرّقة، بالمقارنة مع ما سنفعله بكم في سورية، بعد أن أعددنا للأمر عدته، وقرّرنا أن لا نتردّد في استعمال جميع أنواع التدابير التي تقتضيها حتمية بقاء السلطة والشعب حيث هما: الأولى في الحكم والثاني في بيت الطاعة.
قال هذا الكلام رئيس المخابرات الجوية جميل حسن الذي ذهب بعد الثورة بأيام إلى بشار الأسد طالبا إطلاق يده في الشعب، ومتعهدا أن يقتل عشرة آلاف سوري (قالت رواية أخرى إنه تعهد بقتل مليوني سوري) وأن يذهب بعد ذلك إلى محكمة الجنايات الدولية نيابة عنه وعن أرباب نظامه. وقال شيئا كهذا أو أشدّ منه بقية قادة شعب الأجهزة وأفرعها الذين تحدثوا عن خطةٍ أعدت منذ عقود لمواجهة الشغب بجميع ما في ترسانة النظام من سلاح، ولتدمير البلاد من أجل إخماد الثورة، وحجتهم أن لمن عمّرها أول مرة حق تدميرها وإعادة إعمارها من جديد، بعد إعادة الأمن والهدوء إليها، أي بعد ذبح شعبها.
ليس سرا أن قيادة النظام قرّرت مواجهة الشعب بأقصى قدر من العنف، منذ حكم الأسد الأب سورية، وأعلنت قرارها قبل الثورة بأشهر أفصحت خلالها عما ستقوم به: استخدام الجيش والمخابرات للمحافظة على السلطة بالعنف، بحجةٍ تم ترويجها خلال نصف قرن، ترى في السلطة جهةً أكثر أهمية ومحورية من الوطن، يعد إضعافها أو التخلص منها كارثةً تحل به، لأنها هي التي بنت سورية ومنحتها فرادتها الاستثنائية، ومن المحال الإتيان بسلطةٍ مماثلة، إن هي سقطت. بهذا الفهم، صارت السلطة مصلحة الوطن الأعلى، وغدا نقدها خيانة وطنية، ومثله التمرّد عليها، بل إنها تصير هي نفسها خائنةً إذا لم تردّ على المنتقدين والمتمرّدين بقدرٍ من العنف يقضي عليهم من دون هوادة. لا داعي للقول إن السيادة لا يجوز أن تكون هنا للشعب، بالنظر إلى أنها تتجسّد في صاحب السلطة، الجهة التي يتم إنتاج الشأن العام ومصالح الدولة والمجتمع العليا انطلاقا منها، وبدلالتها الشخصية. ولا بد أن تعتبر قمة السلطة وقاعدتها
وحاملها في آن معا. بذلك، لا يجوز أن يبقى للمواطنين من دور غير دور قطيع يؤمر فيطيع، أليس مجرد مادة خام تشكلها يد الملهم المعصوم، القابع على رأس السلطة الذي لا يشاركه أحد في دوره وسلطاته ومكانته. ولا يحقّ لأحد من خارج دائرته حتى مخاطبته أو الوصول إليه، ولا مفرّ من أن يستطيع هو الوصول إلى أيّ كان، ما دام من مصلحة المواطن والوطن أن يكون في قبضته، هو الذي يعرفه خيرا من نفسه، ويعرف ما لا يعرفه أو يستطيع أن يعرفه سواه، ويتفوق بعصمته على أفراد شعب"ه" مجتمعين، وتصدر عنه حقيقة وطن"ه" وهوية مجتمعه، فليس في مصلحة الوطن أن يتوهم أي كان أن في وسعه التمتّع بشيء من صفاته ما فوق البشرية التي تضعه في مراتب لا يمكن أن يصل إليها غيره، فلماذا لا يُرغم من يعيشون في ظله على الخضوع من دون قيد أو شرط لإرادته، وقبول ما يصدر عنه والامتثال المطلق لأوامره؟!
في سلطةٍ هذا طابع علاقتها بشعب"ها"، لا تبقي أي هامش مهما كان طفيفا للمختلف أو المحايد، يعامل من لا يخضع لها معاملة عدو، ولا تسمح بأي قدرٍ من الحرية والتباين ـ وبالتالي التسامح، مهما كان محدودا. ويكون المبدأ الناظم لعلاقة من هم فوق مع من هم تحت، هو التالي: نحكمكم أو نقتلكم. هذا الوضع الرهيب يغرق المواطن في حال من الفصام الشامل، يصير معه مواليا في المجال العام، متمرّدا ومعاديا في مجاله الخاص، يتلهف لإخراج نفسه قبضته، ويخشى، في الوقت نفسه، التمرّد عليه، على الرغم من أنه يحلم بتقويضه بل وتدميره. من الطبيعي أن يكون هذا الوضع، المشحون بقدرٍ هائلٍ من التوتر اللاطي تحت سطح حياة يبدو راكدا ومستقرا، عرضةً للانفجار في أي وقتٍ بقوة عداء عام يسم علاقة السلطة بشعب"ها"، الذي تموت إن هو قوّض سيطرتها عليه، وتعيش من إبقائه ميتا، وترفض أي حل وسط أو تسوية معه؟ ألا يفسّر هذا نفور النظام الشديد من فكرة المصالحة الوطنية والتسوية الداخلية والوطنية للمشكلات والأزمات؟ ولماذا لاحق وطارد من قالوا بهما أو دعوا إليهما، واعتبرهم أعداءً تحمل عروضهم التصالحية بذور انهياره وموته؟
لم يتخلّ النظام يوما عن هذه الرؤية، وتصرّف دوما وكأنه يعادل الوطن أو يكون الوطن ذاته، الذي لا يبقى ويستمر، ولا يحق له أن يبقى ويستمر، إلا بقيادة مجسد النظام والوطن في شخصه "السيد الرئيس" الذي لا يحق لوطنه البقاء بعده أو بدونه، وقال أتباعه: "الأسد أو نحرق البلد"، و"الأسد أو لا أحد". في منطق السلطة: الدفاع عن شخص الرئيس هو دفاع عن الوطن والنظام في آن معا، ولا أهمية إطلاقا لما يترتّب على التمسك به وبالسلطة من نتائج على سورية وشعبها: كدمارها بيتا بيتا وشارعا شارعا، وإبادة بناتها وأبنائها شيبا وشبانا، كما يحدث فيها منذ أعوام.
في سياسةٍ هذه مفرداتها، لا يقتصر الإجرام على أفعال مادية، بل يتمثل قبل كل شيء في أفكار السلطة ونظرياتها التي تقود إلى أفعالٍ جرمية، تعتبرها مساوية للسياسة. أليس ما يجري في سورية خير دليل على أن الجريمة نمت وترعرعت في عقول حكامها، قبل أن تفتك بشعبها؟
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.