14 نوفمبر 2024
سؤال للإعلاميين عن صناعة الجهل
بعث لي أحد أصدقاء "واتس أب" مقالا طريفا للدكتور عبد الرزاق بني هاني، عنوانه أكثر طرافة، وهو "علم الجهل"، يتحدث عن صناعة الجهل، وكيف يتخصص خبراء في أجهزة الدول الكبرى في وضع الخطط لتجهيل الشعوب، وإبقائها في حالة "غيبوبة" جَمْعية.
أكثر ما يلفت النظر في المقال ما يرويه الكاتب عن صديق أميركي له، يعمل في مؤسسة راند البحثية المعروفة، وقوله له إن هناك مؤسساتٍ، تابعة لحكومات دولٍ عُظمَى، ومنها حكومة الولايات المتحدة، متخصصة في هندسة الجهل وصناعته وتغليفه بأرقى الأشكال، ثم تسويقه على نطاقٍ واسع، أما من هم مستهلكو سلعة الجهل، حسب رأي "الصديق"، فهم ثلاث فئات في كل مجتمع:
الأولى: الفقراء في المجتمع، وجلهم من الأقليات الاجتماعية والدينية وعمال البلديات، وفقراء المناطق النائية وفقراء الريف، وعمال المزارع، وما شابه هذه التصنيفات. إضافة إلى معلمي المدارس وأساتذة الجامعات. وقد تصل نسبة هذه الفئات كلها في الولايات المتحدة وحدها إلى 90% من حجم السكان، وجنود القتال الأميركيون مشمولون بالطبع، حسب الصديق، في هذه الفئة.
الثانية: المتدينون الذين يؤمنون بالقدرية، فهم مستسلمون للقدر الذي يظنون أنه لا يتغير، وعلى عاتقهم تقع مسؤولية تجهيل أكبر عدد ممكن من الناس الذين لديهم ميول دينية.
الفئة الأخيرة سماها فئة المغفلين الذين يعملون في الحكومات، وخصوصا حكومات الدول
الفقيرة، وبالتحديد فئة التكنوقراط (الفنيين) الذين يقدّمون النصح والمشورة لمتخذي القرار في دولهم، فيتم تدريب هؤلاء على تمرير الجهل وتبريره، تحت مسمى النظرية والعلم والإمكانات والموارد، ويأتي في مقدمتهم المعنيون بالشأن السياسي والاقتصادي، إذ تنحصر مهامهم في بث روح اليأس في نفس صاحب القرار من إمكانية الإصلاح... وممارسة الكذب والكذب والكذب على عامة الناس، وترسيخ الأكاذيب في أذهان العامة على أنها حقائق لا بد أن يدافعوا عنها.
انتهى كلام الصديق، وصديق الصديق، وكما نرى، للأسف، فإن الفئات المستهدفة لاستهلاك "سلعة الجهل" هم كل المجتمع، بلا استثناء، ما خلا من يصنع الجهل، ويروّجه وفق خطط مبرمجة بالغة الدقة. وبالطبع، لسنا ملزمين هنا بالأخذ بكل ما ورد في هذا التصنيف الذي يبدو متطرّفا جدا، لكنه يلقي إضاءةً شديدةً على طبيعة إدارة الدول والمجتمعات، في عالمنا المعاصر، حيث يكاد يبدو كل ما نراه أو نسمعه أو نقرأه غير حقيقي. وهذا الموضوع يذكّرني بمقالين سبق ونشرتهما منذ وقت ليس بعيداً، عرضت فيه عشرة أساليب يعتمدها الساسة للتحكم بالشعوب، أوردها المفكر الأميركي، نعوم تشومسكي، قيل إنه اعتمد في استنباطها على "وثيقة سريّة للغاية" تعود إلى مايو/ أيار 1979، وتمّ العثور عليها سنة 1986، وعنوانها "الأسلحة الصّامتة لخوض حرب هادئة"، وهي كتيّب أو دليل للتحكّم في البشر والسيطرة على المجتمعات.
حينما تقرأ ذلك الكتيب المتاح مترجما إلى العربية على شبكة الإنترنت تُصاب بالدوار، فهو
يتحدّث عن عملية اقتصادية سياسية رياضية اجتماعية للتحكم بمصائر الشعوب، وصناعة بيئة حاضنة للجهل، أو على الأصح بيئةٌ هي أشبه ما تكون بمصنع تدخل إليه المواد الخام (هنا المادة الخام البشر)، لتخرج من الجهة الأخرى مادة مصنعة وفق مقاييس ومعايير صارمة، وكما يريد الصانع، ووفق معاييره تماما، وبالجملة ثمّة فئة قليلة قد لا يزيد عددها عن نسبة الواحد بالمائة، تدير التسعة والتسعين بالمائة وتسخّرهم لخدمتها، فهم يؤدون "واجبهم" بمنتهى الإتقان، بمعرفتهم وبدونها، فهم مضطرّون لسلوك طريق أعدّ لهم بشكل متقن تماما، ولا خيار أمامهم إلا أن يسلكوه.
لا غنى لكل من يريد أن يفهم مغزى ما أقول عن قراءة متمعنة لذلك الكتيب الصغير، واستخلاصات تشومسكي، ففيهما ما يفتح كثيرا من مغاليق السياسة والاقتصاد، ويفكّ رموز ما يجري اليوم، ولعل فوز دونالد ترامب برئاسة أقوى دولة في العالم، يأتي في السياق الذي نتحدث عنه.
المهم في كل ما قيل أن وسيلة المتحكّمين بمصائر الناس، لبث أفكارهم تلك، كانت ولم تزل الإعلام. والسؤال هنا، هل يعي الإعلاميون (وأنا منهم!) أنهم يؤدون هذا الدور؟ أم أنهم جزء من مستهلكي سلعة الجهل تلك؟
أكثر ما يلفت النظر في المقال ما يرويه الكاتب عن صديق أميركي له، يعمل في مؤسسة راند البحثية المعروفة، وقوله له إن هناك مؤسساتٍ، تابعة لحكومات دولٍ عُظمَى، ومنها حكومة الولايات المتحدة، متخصصة في هندسة الجهل وصناعته وتغليفه بأرقى الأشكال، ثم تسويقه على نطاقٍ واسع، أما من هم مستهلكو سلعة الجهل، حسب رأي "الصديق"، فهم ثلاث فئات في كل مجتمع:
الأولى: الفقراء في المجتمع، وجلهم من الأقليات الاجتماعية والدينية وعمال البلديات، وفقراء المناطق النائية وفقراء الريف، وعمال المزارع، وما شابه هذه التصنيفات. إضافة إلى معلمي المدارس وأساتذة الجامعات. وقد تصل نسبة هذه الفئات كلها في الولايات المتحدة وحدها إلى 90% من حجم السكان، وجنود القتال الأميركيون مشمولون بالطبع، حسب الصديق، في هذه الفئة.
الثانية: المتدينون الذين يؤمنون بالقدرية، فهم مستسلمون للقدر الذي يظنون أنه لا يتغير، وعلى عاتقهم تقع مسؤولية تجهيل أكبر عدد ممكن من الناس الذين لديهم ميول دينية.
الفئة الأخيرة سماها فئة المغفلين الذين يعملون في الحكومات، وخصوصا حكومات الدول
انتهى كلام الصديق، وصديق الصديق، وكما نرى، للأسف، فإن الفئات المستهدفة لاستهلاك "سلعة الجهل" هم كل المجتمع، بلا استثناء، ما خلا من يصنع الجهل، ويروّجه وفق خطط مبرمجة بالغة الدقة. وبالطبع، لسنا ملزمين هنا بالأخذ بكل ما ورد في هذا التصنيف الذي يبدو متطرّفا جدا، لكنه يلقي إضاءةً شديدةً على طبيعة إدارة الدول والمجتمعات، في عالمنا المعاصر، حيث يكاد يبدو كل ما نراه أو نسمعه أو نقرأه غير حقيقي. وهذا الموضوع يذكّرني بمقالين سبق ونشرتهما منذ وقت ليس بعيداً، عرضت فيه عشرة أساليب يعتمدها الساسة للتحكم بالشعوب، أوردها المفكر الأميركي، نعوم تشومسكي، قيل إنه اعتمد في استنباطها على "وثيقة سريّة للغاية" تعود إلى مايو/ أيار 1979، وتمّ العثور عليها سنة 1986، وعنوانها "الأسلحة الصّامتة لخوض حرب هادئة"، وهي كتيّب أو دليل للتحكّم في البشر والسيطرة على المجتمعات.
حينما تقرأ ذلك الكتيب المتاح مترجما إلى العربية على شبكة الإنترنت تُصاب بالدوار، فهو
لا غنى لكل من يريد أن يفهم مغزى ما أقول عن قراءة متمعنة لذلك الكتيب الصغير، واستخلاصات تشومسكي، ففيهما ما يفتح كثيرا من مغاليق السياسة والاقتصاد، ويفكّ رموز ما يجري اليوم، ولعل فوز دونالد ترامب برئاسة أقوى دولة في العالم، يأتي في السياق الذي نتحدث عنه.
المهم في كل ما قيل أن وسيلة المتحكّمين بمصائر الناس، لبث أفكارهم تلك، كانت ولم تزل الإعلام. والسؤال هنا، هل يعي الإعلاميون (وأنا منهم!) أنهم يؤدون هذا الدور؟ أم أنهم جزء من مستهلكي سلعة الجهل تلك؟