27 سبتمبر 2018
في روسيا.. لم تحدث ثورة أكتوبر
لا تريد روسيا الاحتفال بمئوية ثورة أكتوبر. بلد الثورة التي حفرت عميقاً في وجدان الشعب الروسي، وشعوب العالم. الثورة التي أوصلت روسيا إلى أن تكون دولة صناعية حداثية، كما كان لينين يحلم. وفرضتها قوة عظمى. ومنعت تفكيكها كما حدث للدولة العثمانية، بعد أن حوّلتها إلى دولة شعوب، وفتحت طريقاً واسعاً لتحرّر الشعوب، ومواجهة الرأسمالية، وتعميق أزمتها.
يقول التبرير الرسمي "إن روسيا ما زالت منقسمة بفعل تداعيات تلك الأحداث الأليمة، ومن الأنسب تحاشي تعميق الانقسام" (صحيفة الحياة 17 /10 /2017)، حيث تظهر الثورة كأحداث أليمة، فرضت انقسام روسيا، وبذلك لا تستحق الاحتفال. وتذهب "الدوائر القريبة" من الرئيس فلاديمير بوتين إلى اعتبار أن الثورة أجهضت "تطور روسيا الكبرى داخل الإطار الأوروبي". وهو الوهم الذي ركب "مرتدّين" كثيرين حمّلوا لينين مسؤولية حرق المراحل، وقطع الطريق على تطور روسيا الرأسمالي، على الرغم من أن هذا الطريق كان مغلقاً أصلاً، وهذا هو تحليل لينين الذي كان يرى أن البرجوازية عاجزة ومتردّدة وجبانة، وموصولة الرحم مع القيصرية. وربما نقول إن الرئيس الأسبق، بوريس يلتسين، هو "نسخة طبق الأصل" عنها. ومن طرف ثانٍ، أن مشاركة القيصرية في الحرب العالمية الأولى، إلى جانب إنكلترا وفرنسا، لم يكن ليجنّبها الميل الاستعماري لدى البلدين الإمبرياليين، والذي كان يسعى إلى توسيع استعماره عبر تفكيك أكبر إمبراطوريتين كانتا ما زالتا قائمتين: الروسية والعثمانية. هذا الميل الذي عاد واضحاً حال انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث عملت الإمبريالية الأميركية على تفكيكه، والتقدّم لتفكيك روسيا ذاتها. بالتالي، كانت ثورة أكتوبر ضرورة لاستمرار وجود "إمبراطورية" يمكن أن يساعد سوقها الواسع على تحقيق التطور الصناعي، والحداثة، في ظل الاشتراكية.
إن تصوّر أنه كان يمكن لروسيا أن تتطوّر رأسمالياً، وألا تقع فريسة الشره الإمبريالي، وأن تكون ضمن العائلة الأوروبية، هو وهم كانت ثورة أكتوبر العلامة التي بدّدته. بالضبط لأنه فيما لو كان هذا الخيار قائماً لما حدثت الثورة أصلاً، لأن الواقع ما كان ليسمح لـ "ثلةٍ من الثوريين" بتغيير مسار التاريخ، وقطع مسار تطور "طبيعي"، وسلس يجري التوهم أنه كان قائماً في روسيا، فهؤلاء الثوريون هم من كانوا يمتلكون رؤية لبديل ممكن، يعتمد تحقيقه على رفض الشعب للنظام الاقتصادي السياسي. ووحده لينين كان يمسك بهذه اللحظة، ويعرف كيف يحقق الربط بين المستويين.
بالطبع، ليس ذلك كله ما جعل بوتين يرفض الاحتفال بالذكرى المائة لثورة أكتوبر، فهو لا ينظر إلى الماضي، بل يفكّر في الراهن. يكتب مراسل صحيفة الحياة في موسكو "يبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين تؤذيه فكرة الثورة، ولا يرتاح لرؤية مواطنيه يهزجون ويرقصون في الشوارع احتفالاً بإسقاط الحكام". يفسّر المؤرخ الروسي نيكيتا سوكولوف المسألة "بأن الدولة لا يمكن أن تحتفل بأحداث عام 1917، لأن الدافع الأساسي لما حصل في تلك الفترة كان التوق إلى العدالة الاجتماعية. وليس بإمكان روسيا اليوم أن تحتفل بتلك الانتفاضة العارمة في هذه الأجواء من التباينات المعيشية والاقتصادية الحادة". لهذا هي "أحداثٌ مؤلمة" وليست ثورة، كما سنلمس طبيعة تناول روسيا الثورات العربية التي وسمتها بأنها "ثورات ملونة"، أي مؤامرات، يجب سحقها. وهذا هو منظور الرأسمالية الروسية كلها التي تعادي الثورات، وتتدخل من أجل سحقها، كما أوضح وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، حينما قال "التدخل الروسي في سورية مكّن من كسر سلسلة الثورات الملونة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، وأنها وضعت "حدا للثورات التي اجتاحت المنطقة".
بالتالي، كيف يمكن أن يحتفل النظام الروسي في ذكرى أهم ثورة في القرن العشرين، وأكثرها تأثيراً، وهو يتلمّس الميل العالمي إلى الثورة، ويتحسّس تحت قدميه ليستكشف متى سيحدث انفجار برميل البارود الذي صنعه نتيجة مجمل سياساته الاقتصادية التي عزّزت دور الرأسمال والمافيا، ودفعت الشعب الروسي إلى الفقر؟ هذا وحده كافٍ لأن يعتبرها "أحداثا أليمة"، و"تخريبا" لمسار تطور "طبيعي" لروسيا الإمبراطورية، التي يقيم كل أمجاده الراهنة على ذكراها. بمعنى أن شرعيته مستمدة من روسيا القيصرية، وليس من روسيا السوفييتية، وأن وجوده الذي كان نتاج روسيا السوفييتية منفي لمصلحة استعادة سوريالية لروسيا العظمى التي كان من الطبيعي أن تتطور في الإطار الأوروبي.
ربما نحن في لحظة تشهد أكبر مفارقة، حيث إن هذا النظام الذي نتج عن روسيا الاشتراكية هو الردة التي باتت تعتبر ثورة أكتوبر التي أوجدت روسيا الاشتراكية "حدثا أليما". وأن تصبح مهمته "كسر الثورات"، ووضع حدّ لها، بالضبط كما كانت تفعل روسيا القيصرية.
يقول التبرير الرسمي "إن روسيا ما زالت منقسمة بفعل تداعيات تلك الأحداث الأليمة، ومن الأنسب تحاشي تعميق الانقسام" (صحيفة الحياة 17 /10 /2017)، حيث تظهر الثورة كأحداث أليمة، فرضت انقسام روسيا، وبذلك لا تستحق الاحتفال. وتذهب "الدوائر القريبة" من الرئيس فلاديمير بوتين إلى اعتبار أن الثورة أجهضت "تطور روسيا الكبرى داخل الإطار الأوروبي". وهو الوهم الذي ركب "مرتدّين" كثيرين حمّلوا لينين مسؤولية حرق المراحل، وقطع الطريق على تطور روسيا الرأسمالي، على الرغم من أن هذا الطريق كان مغلقاً أصلاً، وهذا هو تحليل لينين الذي كان يرى أن البرجوازية عاجزة ومتردّدة وجبانة، وموصولة الرحم مع القيصرية. وربما نقول إن الرئيس الأسبق، بوريس يلتسين، هو "نسخة طبق الأصل" عنها. ومن طرف ثانٍ، أن مشاركة القيصرية في الحرب العالمية الأولى، إلى جانب إنكلترا وفرنسا، لم يكن ليجنّبها الميل الاستعماري لدى البلدين الإمبرياليين، والذي كان يسعى إلى توسيع استعماره عبر تفكيك أكبر إمبراطوريتين كانتا ما زالتا قائمتين: الروسية والعثمانية. هذا الميل الذي عاد واضحاً حال انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث عملت الإمبريالية الأميركية على تفكيكه، والتقدّم لتفكيك روسيا ذاتها. بالتالي، كانت ثورة أكتوبر ضرورة لاستمرار وجود "إمبراطورية" يمكن أن يساعد سوقها الواسع على تحقيق التطور الصناعي، والحداثة، في ظل الاشتراكية.
إن تصوّر أنه كان يمكن لروسيا أن تتطوّر رأسمالياً، وألا تقع فريسة الشره الإمبريالي، وأن تكون ضمن العائلة الأوروبية، هو وهم كانت ثورة أكتوبر العلامة التي بدّدته. بالضبط لأنه فيما لو كان هذا الخيار قائماً لما حدثت الثورة أصلاً، لأن الواقع ما كان ليسمح لـ "ثلةٍ من الثوريين" بتغيير مسار التاريخ، وقطع مسار تطور "طبيعي"، وسلس يجري التوهم أنه كان قائماً في روسيا، فهؤلاء الثوريون هم من كانوا يمتلكون رؤية لبديل ممكن، يعتمد تحقيقه على رفض الشعب للنظام الاقتصادي السياسي. ووحده لينين كان يمسك بهذه اللحظة، ويعرف كيف يحقق الربط بين المستويين.
بالطبع، ليس ذلك كله ما جعل بوتين يرفض الاحتفال بالذكرى المائة لثورة أكتوبر، فهو لا ينظر إلى الماضي، بل يفكّر في الراهن. يكتب مراسل صحيفة الحياة في موسكو "يبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين تؤذيه فكرة الثورة، ولا يرتاح لرؤية مواطنيه يهزجون ويرقصون في الشوارع احتفالاً بإسقاط الحكام". يفسّر المؤرخ الروسي نيكيتا سوكولوف المسألة "بأن الدولة لا يمكن أن تحتفل بأحداث عام 1917، لأن الدافع الأساسي لما حصل في تلك الفترة كان التوق إلى العدالة الاجتماعية. وليس بإمكان روسيا اليوم أن تحتفل بتلك الانتفاضة العارمة في هذه الأجواء من التباينات المعيشية والاقتصادية الحادة". لهذا هي "أحداثٌ مؤلمة" وليست ثورة، كما سنلمس طبيعة تناول روسيا الثورات العربية التي وسمتها بأنها "ثورات ملونة"، أي مؤامرات، يجب سحقها. وهذا هو منظور الرأسمالية الروسية كلها التي تعادي الثورات، وتتدخل من أجل سحقها، كما أوضح وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، حينما قال "التدخل الروسي في سورية مكّن من كسر سلسلة الثورات الملونة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، وأنها وضعت "حدا للثورات التي اجتاحت المنطقة".
بالتالي، كيف يمكن أن يحتفل النظام الروسي في ذكرى أهم ثورة في القرن العشرين، وأكثرها تأثيراً، وهو يتلمّس الميل العالمي إلى الثورة، ويتحسّس تحت قدميه ليستكشف متى سيحدث انفجار برميل البارود الذي صنعه نتيجة مجمل سياساته الاقتصادية التي عزّزت دور الرأسمال والمافيا، ودفعت الشعب الروسي إلى الفقر؟ هذا وحده كافٍ لأن يعتبرها "أحداثا أليمة"، و"تخريبا" لمسار تطور "طبيعي" لروسيا الإمبراطورية، التي يقيم كل أمجاده الراهنة على ذكراها. بمعنى أن شرعيته مستمدة من روسيا القيصرية، وليس من روسيا السوفييتية، وأن وجوده الذي كان نتاج روسيا السوفييتية منفي لمصلحة استعادة سوريالية لروسيا العظمى التي كان من الطبيعي أن تتطور في الإطار الأوروبي.
ربما نحن في لحظة تشهد أكبر مفارقة، حيث إن هذا النظام الذي نتج عن روسيا الاشتراكية هو الردة التي باتت تعتبر ثورة أكتوبر التي أوجدت روسيا الاشتراكية "حدثا أليما". وأن تصبح مهمته "كسر الثورات"، ووضع حدّ لها، بالضبط كما كانت تفعل روسيا القيصرية.