06 سبتمبر 2022
سورية.. عندما يستمر الأمس فينا
لدى الانقلاب العسكري الذي قام به حافظ الأسد، في السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1970، كان الحوار/ الصراع على أشدِّه في الحزب الشيوعي السوري بشأن الموقف من الانقلاب. كنت أقوم بخدمة العلم في مطار المزة في دمشق، ولم أكن على صلة تنظيمية بالحزب (الحزب الشيوعي السوري)، فجيش "البعث" عقائدي، لا يسمح بأي تنظيم سياسي سواه. أما إن كان ثمة منظَّم في حزب ما فمصيره الهلاك، وكان مصطفى الزعبي شهيد الحزب الشيوعي لدى مخابرات عسكر "البعث" علامة فارقة، رسمت حدود التحالف الذي سيأتي وعمقه وأبعاده.
بالمصادفة المحضة، تعرفت في أثناء خدمتي على أحد المدنيين العاملين في المطار، وصل بعضنا إلى بعض، من روائح الكلام، فصارت لي صلة سرِّيَّة وفردية مع ذلك الشخص الذي كان يتميز بالجرأة، والبساطة، وبالفقر الشديد طبعاً.. وصرت أزور الرجل في بيته في أعلى سفوح قاسيون، لأطلع منه على نشرات الحزب، وأستمع إلى أخباره. وكان يأتي من الحزب آنذاك ما يسمّى "الخط السياسي" العام، وهو تلخيص لمسار السياسة السورية، وللاتجاه العام
للسياسة الدولية التي يتجاذبها، آنئذ، قطبان رئيسان، هما الاتحاد السوفييتي الذي نؤيده، نحن الشيوعيون، على "العمياني". والإمبريالية الأميركية التي نمقتها، كذلك، على طول الخط. أما في الداخل السوري، فكان التركيز على ما ينذر بأخطار كبيرة، وأعني الصراع المحتدم بين يسار "البعث" ويمينه، فسواد هزيمة يونيو/حزيران 1967 يخيم على البلاد، على الرغم من بقاء الأنظمة الخاسرة.. إذ أوجد لها السوفييت آنذاك مخرجاً مناسباً، فعضّت عليه بالنواجذ، مصدّقة أن لا هدف للحرب الإسرائيلية غير إسقاط النظامين التقدميين في كل من سورية ومصر. ومن الطبيعي أن يكون موقفنا، ونحن حزب شيوعي، إلى جانب التقدِّم واتجاهه واستمراره الذي كنا نراه يتمثل في القيادة السياسية المدنية لحزب البعث. أما الاتجاه الآخر فهو موسوم باليميني، إضافة إلى أنّه تنظيم عسكري، تمثله مجموعة من الضباط من بينهم ناجي جميل، ومصطفى طلاس، وحكمت الشهابي، وآخرون مقرّبون، من خلف حجاب، إلى وزير الدفاع حافظ الأسد الذي يقود التكتل بقوِّة.. وكانت صحيفة الحزب الشيوعي تكتب عن هذا الأمر، وعن الحلول المطروحة لما باتت تعرف بمشكلة الشرق الأوسط. وعلى التوازي كانت حرب الاستنزاف قائمة، وكذلك التحضيرات لتحقيق شعار ما بات يعرف "إزالة آثار العدوان" في كل من سورية ومصر والأردن.. ومن جهة أخرى، كان القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن موضع صراع عميق. ولما كان صلاح جديد وكتلته اليسارية قد "ركبوا رؤوسهم" رفضاً للقرار، تقدَّم حافظ الأسد نحو السلطة، مدعوماً من الكل، وفي مقدمتهم السوفييت.. وكان على الحزب الشيوعي أن يبلع كلامه الثوري السابق، ويدعم موقف السوفييت الذين يتوقف عليهم "مصير الاشتراكية في العالم"، ومن خلالهم تأتي "حرية الشعوب الفقيرة والمضطهدة.." ولا بد هنا من الإشارة إلى أنَّ الحزب الشيوعي السوري لم يكن ليؤيد أيَّ انقلاب عسكري، أو أيَّ نظام ديكتاتوري سبق انقلاب الأسد وديكتاتوريته.
يقول المرحوم يوسف الفيصل (الرجل الثاني في الحزب على مدى تاريخه، والأمين العام لجزئه بعد انقسامه الثاني عام 1986) في حديث بيننا، أنقله من الذاكرة: جعلنا الانقلاب في موقفٍ لا نحسد عليه، ونحن في عزِّ أزمتنا التي تعمقت مع رياض الترك.. فبينما نحن نتلف أعداد جريدة نضال الشعب التي صدرت قبل أيام الانقلاب أو خلاله، وفيها مقالة تهاجم تكتل الضباط ومواقفهم اليمينية، كان يوسف نمر ورفاقه من جماعة رياض الترك (حزب الشعب الديمقراطي الآن) يخرجون في مظاهرة مع البعث اليساري الرافض للانقلاب من داخل فرع دمشق لحزب البعث، في موقع السبع بحرات.." (انشق النمر وأخوه عن الترك فيما بعد، ليعود ويلتقي مع فيصل عام 1991 في المؤتمر السابع الموحد، ثم ليأخذ الحزب كلَّه مع تكتل "منظمات القاعدة" في 2005، وليصبح أكثر طواعية للبعث وأجهزته، وليقف ضد تجليات الربيع العربي في سورية، مبرّراً ذلك بعبارة: "الفاشية ولا الإخوان المسلمين").
ولا تمر شهور على انقلاب الأسد الذي برّره الحزب الشيوعي باستمرار الصداقة مع السوفييت، وبالحفاظ على المنجزات التقدّمية، حتى تأخذ مظاهر صناعة الدكتاتور تتجلى في الشارع السوري، فيتوجس المكتب السياسي للحزب خيفة، ويقرّر بحث المسألة مع الأسد بالذات، ويكلَّف الفيصل وزير الدولة آنذاك، ويجري الاجتماع، في قاعة كبرى جلس في زاويتها، ويستمع حافظ الأسد ربع أو ثلث ساعة لحديث الفيصل اللبق، وهو الدبلوماسي الحصيف، وقد أعدَّ لاجتماعه جيداً. ولدى انتهائه، يعلِّق حافظ الأسد بكلمتين لا ثالثة لهما: انتهى الاجتماع".
ويخرج عندئذ الفيصل وهو في حال لا يحسد عليها.. وقد وصفها بدقة في الجزء الثاني من
كتابه "ذكريات ومواقف". وينقل إلى الحزب تفاصيل الاجتماع، لكنَّ الحزب لا يأخذ أيَّ موقف، إذ إن التحالف "الاستراتيجي" مستمر برغبة السوفييت وفلسفتهم بشأن الاشتراكيين الديمقراطيين. ولا تمس مثل هذه المسألة الجوهر الوطني لمواقف النظام. وللعلم، تكررت مثل هذه الأمور، أقصد أن يبدي الحزب موقفاً له علاقة بالشعب السوري وقضاياه، ثم يتراجع عنه أو ينساه.. كالموقف من الدخول السوري إلى لبنان (!)، أو الموقف من الحرب الإيرانية العراقية، وكذلك من الجريمة الكبرى في حماه (1982). ومواقف اقتصادية أخرى، كالموقف من مسألة استثمار النفط عبر شركة تريبكو الأميركية، إضافة إلى مجمل ما تفعله البرجوازيتان، الطفيلية والبيروقراطية، من تخريب في الاقتصاد الوطني.
استدعت هذه الذكريات نفسها، بينما يفكر صاحب هذه السطور في الحال السورية اليوم، ليس للإشارة إلى أمراض الدكتاتورية وجرائمها فحسب، بل للقول إنَّ الأخطاء الصغيرة في السياسة لا تموت أبداً، بل هي تحيا وتتراكم، ويغدو تأثيرها أكبر وأشد خطراً. فما انتبه إليه الحزب الشيوعي، وغيره من الأحزاب الوطنية، ولم يتخذوا منه موقفاً سياسياً جدِّياً، وفق ما تتطلَّبه المصلحة الوطنية العليا، بل سايروا وفق مصالحهم الضيقة، متذرّعين بهذا السبب أو ذاك، ما أدّى، في النهاية، إلى تدمير سورية التي يملك نظامها أكبر رصيد من الشعارات الوطنية والقومية والاجتماعية. أمَّا ما كان يمليه السوفييت على الشيوعيين وأصدقائهم، فالروس يقرّرونه اليوم بأنفسهم على النظام السوري وأحزابه من قاعدة حميميم، وهي أول قاعدة عسكرية لأجنبي تقام على الأرض السورية بعد جلاء الجيش الفرنسي عنها عام 1945.
بالمصادفة المحضة، تعرفت في أثناء خدمتي على أحد المدنيين العاملين في المطار، وصل بعضنا إلى بعض، من روائح الكلام، فصارت لي صلة سرِّيَّة وفردية مع ذلك الشخص الذي كان يتميز بالجرأة، والبساطة، وبالفقر الشديد طبعاً.. وصرت أزور الرجل في بيته في أعلى سفوح قاسيون، لأطلع منه على نشرات الحزب، وأستمع إلى أخباره. وكان يأتي من الحزب آنذاك ما يسمّى "الخط السياسي" العام، وهو تلخيص لمسار السياسة السورية، وللاتجاه العام
يقول المرحوم يوسف الفيصل (الرجل الثاني في الحزب على مدى تاريخه، والأمين العام لجزئه بعد انقسامه الثاني عام 1986) في حديث بيننا، أنقله من الذاكرة: جعلنا الانقلاب في موقفٍ لا نحسد عليه، ونحن في عزِّ أزمتنا التي تعمقت مع رياض الترك.. فبينما نحن نتلف أعداد جريدة نضال الشعب التي صدرت قبل أيام الانقلاب أو خلاله، وفيها مقالة تهاجم تكتل الضباط ومواقفهم اليمينية، كان يوسف نمر ورفاقه من جماعة رياض الترك (حزب الشعب الديمقراطي الآن) يخرجون في مظاهرة مع البعث اليساري الرافض للانقلاب من داخل فرع دمشق لحزب البعث، في موقع السبع بحرات.." (انشق النمر وأخوه عن الترك فيما بعد، ليعود ويلتقي مع فيصل عام 1991 في المؤتمر السابع الموحد، ثم ليأخذ الحزب كلَّه مع تكتل "منظمات القاعدة" في 2005، وليصبح أكثر طواعية للبعث وأجهزته، وليقف ضد تجليات الربيع العربي في سورية، مبرّراً ذلك بعبارة: "الفاشية ولا الإخوان المسلمين").
ولا تمر شهور على انقلاب الأسد الذي برّره الحزب الشيوعي باستمرار الصداقة مع السوفييت، وبالحفاظ على المنجزات التقدّمية، حتى تأخذ مظاهر صناعة الدكتاتور تتجلى في الشارع السوري، فيتوجس المكتب السياسي للحزب خيفة، ويقرّر بحث المسألة مع الأسد بالذات، ويكلَّف الفيصل وزير الدولة آنذاك، ويجري الاجتماع، في قاعة كبرى جلس في زاويتها، ويستمع حافظ الأسد ربع أو ثلث ساعة لحديث الفيصل اللبق، وهو الدبلوماسي الحصيف، وقد أعدَّ لاجتماعه جيداً. ولدى انتهائه، يعلِّق حافظ الأسد بكلمتين لا ثالثة لهما: انتهى الاجتماع".
ويخرج عندئذ الفيصل وهو في حال لا يحسد عليها.. وقد وصفها بدقة في الجزء الثاني من
استدعت هذه الذكريات نفسها، بينما يفكر صاحب هذه السطور في الحال السورية اليوم، ليس للإشارة إلى أمراض الدكتاتورية وجرائمها فحسب، بل للقول إنَّ الأخطاء الصغيرة في السياسة لا تموت أبداً، بل هي تحيا وتتراكم، ويغدو تأثيرها أكبر وأشد خطراً. فما انتبه إليه الحزب الشيوعي، وغيره من الأحزاب الوطنية، ولم يتخذوا منه موقفاً سياسياً جدِّياً، وفق ما تتطلَّبه المصلحة الوطنية العليا، بل سايروا وفق مصالحهم الضيقة، متذرّعين بهذا السبب أو ذاك، ما أدّى، في النهاية، إلى تدمير سورية التي يملك نظامها أكبر رصيد من الشعارات الوطنية والقومية والاجتماعية. أمَّا ما كان يمليه السوفييت على الشيوعيين وأصدقائهم، فالروس يقرّرونه اليوم بأنفسهم على النظام السوري وأحزابه من قاعدة حميميم، وهي أول قاعدة عسكرية لأجنبي تقام على الأرض السورية بعد جلاء الجيش الفرنسي عنها عام 1945.