04 أكتوبر 2024
في استدعاء أحداث شارع محمد محمود
تضعُف الذاكرة، ومع الوقت تظهر رواياتٌ جديدةٌ عن كل الأحداث الكبرى التي حدثت منذ زمن بعيد أو قريب، بعضها روايات ثانية مخالفة للرواية الرسمية، فتكشف اللثام عن أحداثٍ كانت غامضة، وكثيرا ما تكون هناك روايات رسمية مخالفة للحقائق التي عاشها بعضهم، روايات يكتبها المنتصر في محاولةٍ لتزوير ما حدث. وهنا يكون مهما وضروريا أن يتم التذكير بما حدث، للتوثيق، وللتذكّر، وللمراجعات.
وفي هذه الأيام، تعود ذكرى أحداث واشتباكات شارع محمد محمود في القاهرة قرب ميدان التحرير، بداية من 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، والتي استمرت أسابيع، وهي الأحداث التي تم اعتبارها الموجة الثانية لثورة يناير، بسبب حدّتها وعدد الضحايا والشهداء والمصابين ونتائجها، وهو الشارع الذي أطلق عليه "شارع العيون"، بسبب العدد الكبير للشباب الذين فقدوا عيونهم، بسبب إطلاق الشرطة عيارات الخرطوش على وجوه الشباب عمدا. ويحمل الشارع اسم محمد محمود باشا، عضو الوفد المصري الذي سافر للمطالبة باستقلال مصر بعد الحرب العالمية الأولى، وقد تم نفيه مع الزعيم الوطني المصري، سعد زغلول، إلى جزيرة سيشل، وكان من أسرة إقطاعية شهيرة. وتحدثت كتابات عديدة عن خلافاته مع سعد زغلول في أثناء فترة النفي وما بعدها، وقد انشق عليه وعلى حزب الوفد العام 1922، وشارك في تأسيس حزب الأحرار الدستوريين، وتولى عدة وزارات في الحكومة التي شكّلها هذا الحزب، إلى أن أصبح رئيس وزراء ووزيرا للداخلية عام 1928، وعُرف عنه استخدامه سياسة القبضة الحديدية. وقام بتعطيل الدستور عدة مرات، وكان معروفا عنه أيضا عداؤه للديمقراطية والجدال الحزبي. ومن المفارقات العجيبة أن تتم تلك المجازر في الشارع الذي يحمل اسمه، وهو الشارع الرئيسي الذي يقود إلى مبنى وزارة الداخلية.
بدأت الأحداث في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، بعد صدور ما يطلق عليها "وثيقة السلمي"، نسبة إلى نائب رئيس الحكومة في حينه علي السلمي، والتي استفزّت كل أطراف وشركاء ثورة
يناير، فكانت الدعوة إلى مليونية المطلب الواحد التي شاركت فيها جميع القوى الثورية (علمانية وإسلامية) ضد تلك الوثيقة المقترحة، وكان الجميع رافضا لها، وإنْ لأسبابٍ مختلفة، فهناك من كان يرفض الوثيقة، بسبب إعطائها صلاحيات خاصة للمجلس العسكري، ووضعا خاصا للمؤسسة العسكرية بشكل عام فوق المحاسبة، وهناك من كان اعتراضه على خطة الوثيقة بخصوص كيفية صياغة الدستور. وفي النهاية، تراجع المجلس العسكري، الحاكم في حينه، عن الوثيقة، بعد مليونية المطلب الواحد.
ولكن، بعد انصراف كل الفصائل السياسية من ميدان التحرير، تطورت الأمور سريعا، فقد قامت قوات الشرطة بالاعتداء على اعتصام مصابي ثورة يناير وأهالي الشهداء الذين كانوا يطالبون بحقوقهم في العلاج والرعاية، وهذا ما أدى إلى عودة المجموعات الشبابية والثورية إلى ميدان التحرير، للاعتراض على ما حدث. ولكن يبدو أن وزارة الداخلية كانت تنتظر هذا الحدث أيضا، من أجل تجريب الأسلحة الجديدة، وتجربة استعادة قدراتها على فض أي اعتصامات وتظاهرات.
تحول ميدان التحرير والمنطقة المحيطة بوزارة الداخلية إلى ساحة حرب، سقط فيها عدة مئات من الشهداء، وأكثر من ألف مصاب، أيام متواصلة من الكر والفر وطلقات الخرطوش والغاز المسيل للدموع، شبابٌ ضحّى بروحه، أو بعينه، أو عاش بقية حياته عاجزاً، فقط لأنه كان يحلم بحياة جديدة فيها عدل واحترام لحقوق الإنسان، وفرص متكافئة للمعيشة، وبأن تتغير وزارة الداخلية المصرية، وأن تكون هناك معاملة لائقة للمصريين بدون تعالٍ وبدون إهانة، شباب كان يحلم بتطهير المؤسسات، وأن تدار الدولة ومؤسساتها بالحكم الرشيد والشفافية.
بعد أكثر من أسبوع من الاشتباكات وحرب الشوارع، تصاعدت المطالبات، وأصبحت تطالب بسرعة تخلّي المجلس العسكري عن السلطة، وتسليمها إلى إدارة مدنية، وأصدر المجلس العسكري بيانا يزعم فيه احترامه لثورة يناير وشهدائها ومصابيها، ويعتذر عن الأحداث وسقوط قتلى ومصابين جدد، وتشكيل لجنة للتحقيق، وتحديد موعد لانتقال السلطة في منتصف 2012، وتمت إقالة رئيس الوزراء عصام شرف، وتعيين كمال الجنزوري أحد أبرز رؤساء الوزراء في عهد حسني مبارك، ما أدى إلى عودة الاعتصامات والاشتباكات بعد حوالي أسبوع.
كانت أحداث شارع محمد محمود، أو الموجة الثانية لثورة يناير، من أبرز المحطات التي دعمت القطيعة، ووسّعت الفجوة بين القوى الشبابية الثورية وجماعة الإخوان المسلمين، ففي هذه الأيام كان هناك تحالف قوي وتلاقي مصالح بين التيار الإسلامي، بقيادة جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري الذي تولى السلطة بعد تنحي مبارك، تم تتويج هذا التحالف في استفتاء مارس/ آذار 2011 الذي دعم سلطة المجلس العسكري في إدارة البلاد، وأعطى لجماعة الإخوان والتيار الإسلامي الغلبة في آلية كتابة الدستور. ولذلك كان "الإخوان" وحزب النور السلفي في صف المجلس العسكري في أحداث "محمد محمود" وما ترتب عليه، فكرّروا رواية السلطة والمجلس العسكري ووزارة الداخلية في إدانة المتظاهرين والمعتصمين، ووصفهم بالبلطجية والمجرمين والمتسولين، واعتبروا الاشتباكات مؤامرةً تهدف إلى تعطيل الانتخابات البرلمانية المنتظرة. ودافعت جماعة الإخوان المسلمين، في خطابها الرسمي وغير الرسمي، عن مواقف الجيش والشرطة ضد الثوار، ودافعوا عن اختيار المجلس العسكري الجنزوري رئيسا للوزراء، وكرروا خطاب أنصار مبارك وأنصار المجلس العسكري بأن هذه التظاهرات مؤامرة غربية لاستهداف الجيش، عمود الخيمة الوحيد كما كانوا يزعمون وقتها. ولا مبالغة في القول إن مواقف جماعة الإخوان في أثناء مذبحة شارع محمد محمود عام 2011، ثم سلسلة الأخطاء في أثناء عام حكم الرئيس محمد مرسي أديا إلى ما حدث في 30 يونيو/ حزيران 2013.
وليست جماعة الإخوان فقط أو التيار الإسلامي هما من اتخذا مواقف المجلس العسكري في لوْم الثوار وتجريمهم، بل كانت هناك أيضا أحزاب تزعم الليبرالية اتخذت الموقف نفسه، وناصرت
الشرطة والجيش في ذلك الوقت، وكان هناك شخصيات ليبرالية وقتها تتسابق مع التيار الإسلامي في نيْل رضاء المجلس العسكري، أملا في الفوز بنسبة أكبر من الكعكة. والجدير بالذكر أيضا أنه ليس كل التيار الإسلامي كان مواليا للمجلس العسكري في 2011، بل كان هناك الشيخ حازم أبو إسماعيل وأنصاره، حيث كان يتميز بخطابه الراديكالي عن باقي فصائل الإسلام السياسي. وكان لا يُخفي عداءه للولايات المتحدة ومعاهدة كامب ديفيد والحكم العسكري، كما أنهم شاركوا مع المجموعات الشبابية الثورية في اعتصامات (وتظاهرات) شارع محمد محمود وأمام مجلس الوزراء، مطالبين بسرعة تنحي المجلس العسكري وتسليم السلطة، وكذلك رفضوا خطاب التخوين ضد المجموعات الشبابية الثورية.
وبالتأكيد، لا فائدة من الدائرة المغلقة في التنابذ أو مسلسل إلقاء كرة اللوم الملتهبة في يد الآخر، فهل بدأت المأساة وشق الصف الثوري في30 يونيو/ حزيران 2013 أم في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 أم في استفتاء مارس/ آذار 2011. ولكن يمكن محاولة تخيل سيناريوهات أخرى مع طرح بعض الأسئلة، ربما يفيد ذلك إن كانت هناك محاولة أخرى في المستقبل القريب أو البعيد. فهل كان الحال سيصير أفضل، لو ساندت جماعة الإخوان المسلمين موقف شباب الثورة في أحداث شارع محمد محمود، ودعمت مطالب تسليم السلطة لمجلس رئاسي مدني؟ وكيف كانت التطورات ستصير بعد ذلك؟
وعلى الجانب الآخر، يمكن التساؤل حول دور الصوت الثوري العالي الذي كان أحيانا يرفض الحلول الوسط، ويقوم بإدانة أي محاولات للتهدئة، هل كان الحال سيختلف، لو لم يتم الرضوخ للصوت العالي والتصعيد غير المبرّر والمزايدات؟ هل كان يمكن تجنب العنف وحمام الدم في "محمد محمود". وبالمثل، يمكن طرح السؤال، هل كان يمكن تجنب المذبحة في ميدان رابعة العدوية في أغسطس/ آب 2013؟
وفي هذه الأيام، تعود ذكرى أحداث واشتباكات شارع محمد محمود في القاهرة قرب ميدان التحرير، بداية من 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، والتي استمرت أسابيع، وهي الأحداث التي تم اعتبارها الموجة الثانية لثورة يناير، بسبب حدّتها وعدد الضحايا والشهداء والمصابين ونتائجها، وهو الشارع الذي أطلق عليه "شارع العيون"، بسبب العدد الكبير للشباب الذين فقدوا عيونهم، بسبب إطلاق الشرطة عيارات الخرطوش على وجوه الشباب عمدا. ويحمل الشارع اسم محمد محمود باشا، عضو الوفد المصري الذي سافر للمطالبة باستقلال مصر بعد الحرب العالمية الأولى، وقد تم نفيه مع الزعيم الوطني المصري، سعد زغلول، إلى جزيرة سيشل، وكان من أسرة إقطاعية شهيرة. وتحدثت كتابات عديدة عن خلافاته مع سعد زغلول في أثناء فترة النفي وما بعدها، وقد انشق عليه وعلى حزب الوفد العام 1922، وشارك في تأسيس حزب الأحرار الدستوريين، وتولى عدة وزارات في الحكومة التي شكّلها هذا الحزب، إلى أن أصبح رئيس وزراء ووزيرا للداخلية عام 1928، وعُرف عنه استخدامه سياسة القبضة الحديدية. وقام بتعطيل الدستور عدة مرات، وكان معروفا عنه أيضا عداؤه للديمقراطية والجدال الحزبي. ومن المفارقات العجيبة أن تتم تلك المجازر في الشارع الذي يحمل اسمه، وهو الشارع الرئيسي الذي يقود إلى مبنى وزارة الداخلية.
بدأت الأحداث في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، بعد صدور ما يطلق عليها "وثيقة السلمي"، نسبة إلى نائب رئيس الحكومة في حينه علي السلمي، والتي استفزّت كل أطراف وشركاء ثورة
ولكن، بعد انصراف كل الفصائل السياسية من ميدان التحرير، تطورت الأمور سريعا، فقد قامت قوات الشرطة بالاعتداء على اعتصام مصابي ثورة يناير وأهالي الشهداء الذين كانوا يطالبون بحقوقهم في العلاج والرعاية، وهذا ما أدى إلى عودة المجموعات الشبابية والثورية إلى ميدان التحرير، للاعتراض على ما حدث. ولكن يبدو أن وزارة الداخلية كانت تنتظر هذا الحدث أيضا، من أجل تجريب الأسلحة الجديدة، وتجربة استعادة قدراتها على فض أي اعتصامات وتظاهرات.
تحول ميدان التحرير والمنطقة المحيطة بوزارة الداخلية إلى ساحة حرب، سقط فيها عدة مئات من الشهداء، وأكثر من ألف مصاب، أيام متواصلة من الكر والفر وطلقات الخرطوش والغاز المسيل للدموع، شبابٌ ضحّى بروحه، أو بعينه، أو عاش بقية حياته عاجزاً، فقط لأنه كان يحلم بحياة جديدة فيها عدل واحترام لحقوق الإنسان، وفرص متكافئة للمعيشة، وبأن تتغير وزارة الداخلية المصرية، وأن تكون هناك معاملة لائقة للمصريين بدون تعالٍ وبدون إهانة، شباب كان يحلم بتطهير المؤسسات، وأن تدار الدولة ومؤسساتها بالحكم الرشيد والشفافية.
بعد أكثر من أسبوع من الاشتباكات وحرب الشوارع، تصاعدت المطالبات، وأصبحت تطالب بسرعة تخلّي المجلس العسكري عن السلطة، وتسليمها إلى إدارة مدنية، وأصدر المجلس العسكري بيانا يزعم فيه احترامه لثورة يناير وشهدائها ومصابيها، ويعتذر عن الأحداث وسقوط قتلى ومصابين جدد، وتشكيل لجنة للتحقيق، وتحديد موعد لانتقال السلطة في منتصف 2012، وتمت إقالة رئيس الوزراء عصام شرف، وتعيين كمال الجنزوري أحد أبرز رؤساء الوزراء في عهد حسني مبارك، ما أدى إلى عودة الاعتصامات والاشتباكات بعد حوالي أسبوع.
كانت أحداث شارع محمد محمود، أو الموجة الثانية لثورة يناير، من أبرز المحطات التي دعمت القطيعة، ووسّعت الفجوة بين القوى الشبابية الثورية وجماعة الإخوان المسلمين، ففي هذه الأيام كان هناك تحالف قوي وتلاقي مصالح بين التيار الإسلامي، بقيادة جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري الذي تولى السلطة بعد تنحي مبارك، تم تتويج هذا التحالف في استفتاء مارس/ آذار 2011 الذي دعم سلطة المجلس العسكري في إدارة البلاد، وأعطى لجماعة الإخوان والتيار الإسلامي الغلبة في آلية كتابة الدستور. ولذلك كان "الإخوان" وحزب النور السلفي في صف المجلس العسكري في أحداث "محمد محمود" وما ترتب عليه، فكرّروا رواية السلطة والمجلس العسكري ووزارة الداخلية في إدانة المتظاهرين والمعتصمين، ووصفهم بالبلطجية والمجرمين والمتسولين، واعتبروا الاشتباكات مؤامرةً تهدف إلى تعطيل الانتخابات البرلمانية المنتظرة. ودافعت جماعة الإخوان المسلمين، في خطابها الرسمي وغير الرسمي، عن مواقف الجيش والشرطة ضد الثوار، ودافعوا عن اختيار المجلس العسكري الجنزوري رئيسا للوزراء، وكرروا خطاب أنصار مبارك وأنصار المجلس العسكري بأن هذه التظاهرات مؤامرة غربية لاستهداف الجيش، عمود الخيمة الوحيد كما كانوا يزعمون وقتها. ولا مبالغة في القول إن مواقف جماعة الإخوان في أثناء مذبحة شارع محمد محمود عام 2011، ثم سلسلة الأخطاء في أثناء عام حكم الرئيس محمد مرسي أديا إلى ما حدث في 30 يونيو/ حزيران 2013.
وليست جماعة الإخوان فقط أو التيار الإسلامي هما من اتخذا مواقف المجلس العسكري في لوْم الثوار وتجريمهم، بل كانت هناك أيضا أحزاب تزعم الليبرالية اتخذت الموقف نفسه، وناصرت
وبالتأكيد، لا فائدة من الدائرة المغلقة في التنابذ أو مسلسل إلقاء كرة اللوم الملتهبة في يد الآخر، فهل بدأت المأساة وشق الصف الثوري في30 يونيو/ حزيران 2013 أم في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 أم في استفتاء مارس/ آذار 2011. ولكن يمكن محاولة تخيل سيناريوهات أخرى مع طرح بعض الأسئلة، ربما يفيد ذلك إن كانت هناك محاولة أخرى في المستقبل القريب أو البعيد. فهل كان الحال سيصير أفضل، لو ساندت جماعة الإخوان المسلمين موقف شباب الثورة في أحداث شارع محمد محمود، ودعمت مطالب تسليم السلطة لمجلس رئاسي مدني؟ وكيف كانت التطورات ستصير بعد ذلك؟
وعلى الجانب الآخر، يمكن التساؤل حول دور الصوت الثوري العالي الذي كان أحيانا يرفض الحلول الوسط، ويقوم بإدانة أي محاولات للتهدئة، هل كان الحال سيختلف، لو لم يتم الرضوخ للصوت العالي والتصعيد غير المبرّر والمزايدات؟ هل كان يمكن تجنب العنف وحمام الدم في "محمد محمود". وبالمثل، يمكن طرح السؤال، هل كان يمكن تجنب المذبحة في ميدان رابعة العدوية في أغسطس/ آب 2013؟