02 يونيو 2024
رسائل إلى الشرطة الأوروبية في فلسطين
قبل عقد، ومن ضمن متطلبات مشروع بناء الدولة الفلسطينية، بدأت بعثة الشرطة الأوروبية في الأرض الفلسطينية المحتلة عملها، والقيام بالمهام المنوطة بها، من أجل إرساء قواعد "الحوكمة والدمقرطة وضمان أسس الفعالية والملكية المحلية" في عملية إصلاح وبناء المؤسسة الأمنية للسلطة الفلسطينية. وقد أُطلِقت البعثة في العام 2006، في إطار "السياسة المشتركة للأمن والدفاع" التي يعتمدها الاتحاد الأوروبي، دعماً لخريطة الطريق من أجل السلام التي وضعتها اللجنة الرباعية الخاصة بالشرق الأوسط. وتعتبر هذه البعثة الأطول زمنيا للاتحاد الأوروبي، مقارنة بالبعثات المشابهة لها، والتي تنتشر في بقاع أخرى، كالصومال وكوسوفو والنيجر.
أقدم المجلس الأوروبي، صيف العام الجاري، على تمديد تفويض بعثة الشرطة الأوروبية حتى يونيو/ حزيران المقبل، وتم تعيين مدير جديد للبعثة فنلندي الجنسية. تهدف هذه المقالة لإيصال خمس رسائل أساسية وجوهرية للمدير الجديد للبعثة، عسى أن تساهم في إشاعة جو بنّاء من الحوار والجدل بشأن الدور الإشكالي الذي تقوم به البعثة.
أولاً، تتمثل مهمة بعثة الشرطة الأوروبية، بشكل رئيسي، بالقيام "بمهننة" الشرطة الفلسطينية، باعتبار هذا الأمر من متطلبات بناء الدولة وصنع السلام، والانخراط فيما تسمى العملية السلمية، من خلال استثمار إضافي في مشروع إصلاح القطاع الأمني للسلطة الفلسطينية. والنتيجة واضحة المعالم التي لا يمكن إنكارها تشير إلى فشل ذريع؛ إذ أن كلا من الدولة والسلام أصبحا أبعد من أي وقت مضى. وتتطلب هذه النتيجة مراجعة نقدية من ساسة الاتحاد الأوروبي، قبل اتخاذ قراراتٍ، كالمتعلقة بتمديد عمل بعثة الشرطة الأوروبية، وكأنها تحقق النجاح تلو الآخر.
ثانياً، تُغفل بعثة الشرطة الأوروبية على الدوام المسبب الرئيسي لانعدام الأمن والأمان، وهو
استمرار الاحتلال العسكري الاستعماري الإسرائيلي. وبذلك، هي تغفل أيضاً أن هذا الاحتلال هو المثبط لعملها ولرسالتها ولفعالية أدائها ولتبعات فعلها. وعليه، التغاضي عن رؤية "الفيل الكبير الذي يملأ الغرفة" فعل سوريالي، ينم عن سذاجة سياسية غريبة. ومهما حاول الاتحاد الأوروبي، وبعثته الشرطية، الالتفاف عليه بالنيات الحسنة والاستراتيجيات والخطط، وكل التدخلات المهنية ذات الجدوى العالمية، فإن ذلك لن يجدي نفعاً، إن استمر تجنب الفيل الكبير في الغرفة (الاحتلال الإسرائيلي). وبالتالي، ما زال صنّاع القرار الأوروبيون غير معنيين، وغير قادرين على عنونة أسئلة عديدة، كالمتعلقة بالمعنى الحقيقي للشرطة المحلية الفلسطينية الفعّالة تحت سطوة الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي، وحماية أمن من؟
ثالثاً، أي نوع وشكل من المؤسسات الفلسطينية ترغب أوروبا وبعثتها الشرطية في البناء والإصلاح والتعزيز والتصليب، خصوصا وأن أوروبا هي الممول الخارجي الرئيسي للسلطة الفلسطينية؟ إذ يحاجج بعضهم أن من الممكن أن تذوب أجسام السلطة من دون الدعم المالي الأوروبي، فإن هذا الدعم الذي يذهب أكثر من ثلثه على قطاع أمني وأجهزة ومؤسسات أمنية لا يحمي الفلسطينيين، ولا يوفر الأمن لهم، على الرغم من وجود أكثر من ثمانين ألف موظف في الضفة الغربية وقطاع غزة يعملون في القطاعات الأمنية. وإنما توفر الهياكل الأمنية هذه الدعم والحماية لعملية سلمية معيبة، ومختلة بنيوياً، والتي تعطي بدورها الأولوية لأمن الآخرين، ولكن ليس لأمن الفلسطينيين.
وعليه، فقد تم تبني نهجٍ يدعو إلى "أمننة كل شيء"، وقد تمت مساواة الاستقرار بالأمان على حساب أمن المستعمَرين، وهذا لن يجعل الاستقرار، خصوصا في ظل ديناميات القوة السائدة، وصفة جيدة للوصول إلى السلام كما يعتقد كثيرون. ولكن، بموجب هذه الوصفة الإشكالي، التي استهوت الفاعلين الرئيسيين من أوروبيين وغيرهم، أصبحت اليد العليا للمؤسسات الأمنية. وفي غياب أي أشكال ذات جدوى للمحاسبة والمساءلة، تحول هذا النفود إلى سيطرةٍ فتحكم فسطوة فاضطهاد فسلطوية متعدّدة الأوجه.
وقد صاحب هذه التحولات دعم أوروبي متواصل، جعل هذا التدخل الأوروبي مساهماً فيما
أسميه "مهننة السلطوية القمعية". أي أن ما قامت به بعثة الشرطة الأوروبية، بشكل فعلي، يمكن تلخصيه بقيامها "بمهننة" عمليات التحولات السلطوية القمعية، والتي صاحبت مشروع بناء الدولة للسلطة الفلسطينية، وهنا الخطورة. إذ أن التحولات السلطوية القمعية للسلطات المحلية الوطنية، وفي ظل العيش تحت شرط استعماري، تعني فيما تعنيه مشاركتها بإدامة الشرط الاستعماري هذا بشكل مباشر وغير مباشر.
رابعاً، استماتة بعثة الشرطة الأوروبية خلف دورها وعملها وتفويضها التقني البحت هو إشكالي للغاية، خصوصا في ظل العمل في بيئة وقودها السياسية، فحب الأوروبيين التفويض التقني التكنوقراطي، ورعبهم من لعب السياسة، يدفعهم إلى التنصل من مواجهة الأسئلة الصعبة والملحة، والتستر خلف أوراق تينٍ هشّة، لكيلا يروا ويلاحظوا التبعات السياسية لأفعالهم اللا-سياسية. إن كانت بعثة الشرطة الأوروبية معنيةً حقاً بتدخل إيجابي، فعليها التوقف عن غض النظر عن التبعات السياسية لتدخلاتهم التقنية التكنوقراطية.
خامساً وأخيراً، على بعثة الشرطة الأوروبية الاستماع لأصوات أخرى، لم يعتادوا عليها، أصوات الناس، إن كانت الملكية المحلية لعملية الإصلاح الأمني الهدف المنشود. فأصوات الناس تدل على صورة مغايرة لما يكتب في التقارير المرفوعة إلى الاتحاد الأوروبي ولدوله الأعضاء من البعثة. تحاجج أصوات الناس بأن الفجوات الأمنية تعمقت، وأن أدوات القمع تعدّدت، وأن عمليات إنكار الحقوق الأساسية تمدّدت.
سماع هذه الأصوات هو ما يحتاجه الساسة الأوروبيون، لفهم حجم الضرر المتسبب، ليس فقط من أجل الفلسطينيين وإحراز حقوقهم وحسب، وإنما من أجل فكرة السلام وجوهرها. ربما أترك المدير الجديد لبعثة الشرطة الأوروبية بهذا التصريح لأحد اللاجئين الفلسطينيين الذين قابلتهم في مخيم جنين في شمال الضفة الغربية المحتلة، إذ قال لي: "البعثة الأمنية الأميركية هي الشيطان الكبير والعدواني؛ والبعثة الأمنية الأوروبية هي الشيطان الصغير واللطيف. كلاهما شيطانان، لكنهما يختلفان في التغليف".
أقدم المجلس الأوروبي، صيف العام الجاري، على تمديد تفويض بعثة الشرطة الأوروبية حتى يونيو/ حزيران المقبل، وتم تعيين مدير جديد للبعثة فنلندي الجنسية. تهدف هذه المقالة لإيصال خمس رسائل أساسية وجوهرية للمدير الجديد للبعثة، عسى أن تساهم في إشاعة جو بنّاء من الحوار والجدل بشأن الدور الإشكالي الذي تقوم به البعثة.
أولاً، تتمثل مهمة بعثة الشرطة الأوروبية، بشكل رئيسي، بالقيام "بمهننة" الشرطة الفلسطينية، باعتبار هذا الأمر من متطلبات بناء الدولة وصنع السلام، والانخراط فيما تسمى العملية السلمية، من خلال استثمار إضافي في مشروع إصلاح القطاع الأمني للسلطة الفلسطينية. والنتيجة واضحة المعالم التي لا يمكن إنكارها تشير إلى فشل ذريع؛ إذ أن كلا من الدولة والسلام أصبحا أبعد من أي وقت مضى. وتتطلب هذه النتيجة مراجعة نقدية من ساسة الاتحاد الأوروبي، قبل اتخاذ قراراتٍ، كالمتعلقة بتمديد عمل بعثة الشرطة الأوروبية، وكأنها تحقق النجاح تلو الآخر.
ثانياً، تُغفل بعثة الشرطة الأوروبية على الدوام المسبب الرئيسي لانعدام الأمن والأمان، وهو
ثالثاً، أي نوع وشكل من المؤسسات الفلسطينية ترغب أوروبا وبعثتها الشرطية في البناء والإصلاح والتعزيز والتصليب، خصوصا وأن أوروبا هي الممول الخارجي الرئيسي للسلطة الفلسطينية؟ إذ يحاجج بعضهم أن من الممكن أن تذوب أجسام السلطة من دون الدعم المالي الأوروبي، فإن هذا الدعم الذي يذهب أكثر من ثلثه على قطاع أمني وأجهزة ومؤسسات أمنية لا يحمي الفلسطينيين، ولا يوفر الأمن لهم، على الرغم من وجود أكثر من ثمانين ألف موظف في الضفة الغربية وقطاع غزة يعملون في القطاعات الأمنية. وإنما توفر الهياكل الأمنية هذه الدعم والحماية لعملية سلمية معيبة، ومختلة بنيوياً، والتي تعطي بدورها الأولوية لأمن الآخرين، ولكن ليس لأمن الفلسطينيين.
وعليه، فقد تم تبني نهجٍ يدعو إلى "أمننة كل شيء"، وقد تمت مساواة الاستقرار بالأمان على حساب أمن المستعمَرين، وهذا لن يجعل الاستقرار، خصوصا في ظل ديناميات القوة السائدة، وصفة جيدة للوصول إلى السلام كما يعتقد كثيرون. ولكن، بموجب هذه الوصفة الإشكالي، التي استهوت الفاعلين الرئيسيين من أوروبيين وغيرهم، أصبحت اليد العليا للمؤسسات الأمنية. وفي غياب أي أشكال ذات جدوى للمحاسبة والمساءلة، تحول هذا النفود إلى سيطرةٍ فتحكم فسطوة فاضطهاد فسلطوية متعدّدة الأوجه.
وقد صاحب هذه التحولات دعم أوروبي متواصل، جعل هذا التدخل الأوروبي مساهماً فيما
رابعاً، استماتة بعثة الشرطة الأوروبية خلف دورها وعملها وتفويضها التقني البحت هو إشكالي للغاية، خصوصا في ظل العمل في بيئة وقودها السياسية، فحب الأوروبيين التفويض التقني التكنوقراطي، ورعبهم من لعب السياسة، يدفعهم إلى التنصل من مواجهة الأسئلة الصعبة والملحة، والتستر خلف أوراق تينٍ هشّة، لكيلا يروا ويلاحظوا التبعات السياسية لأفعالهم اللا-سياسية. إن كانت بعثة الشرطة الأوروبية معنيةً حقاً بتدخل إيجابي، فعليها التوقف عن غض النظر عن التبعات السياسية لتدخلاتهم التقنية التكنوقراطية.
خامساً وأخيراً، على بعثة الشرطة الأوروبية الاستماع لأصوات أخرى، لم يعتادوا عليها، أصوات الناس، إن كانت الملكية المحلية لعملية الإصلاح الأمني الهدف المنشود. فأصوات الناس تدل على صورة مغايرة لما يكتب في التقارير المرفوعة إلى الاتحاد الأوروبي ولدوله الأعضاء من البعثة. تحاجج أصوات الناس بأن الفجوات الأمنية تعمقت، وأن أدوات القمع تعدّدت، وأن عمليات إنكار الحقوق الأساسية تمدّدت.
سماع هذه الأصوات هو ما يحتاجه الساسة الأوروبيون، لفهم حجم الضرر المتسبب، ليس فقط من أجل الفلسطينيين وإحراز حقوقهم وحسب، وإنما من أجل فكرة السلام وجوهرها. ربما أترك المدير الجديد لبعثة الشرطة الأوروبية بهذا التصريح لأحد اللاجئين الفلسطينيين الذين قابلتهم في مخيم جنين في شمال الضفة الغربية المحتلة، إذ قال لي: "البعثة الأمنية الأميركية هي الشيطان الكبير والعدواني؛ والبعثة الأمنية الأوروبية هي الشيطان الصغير واللطيف. كلاهما شيطانان، لكنهما يختلفان في التغليف".