عصر الكذب في العالم العربي

28 أكتوبر 2017
+ الخط -
كما هو ديدنُ قومنا، ارتكب العرب جريمة نكراء جديدة في حق الإنسانية، وتحديداً بتحويل الأدوات الإعلامية الحديثة إلى نقيض ما اخترعت من أجله. فأصبح الإعلام، في بلدان وساحات كثيرة، وسيلة للتضليل والتجهيل، بدلاً من "الإعلام" كما هو اسمه. على سبيل المثال، أتاح لنا المولى تعالى في هذا العصر وسائل التواصل الاجتماعي، مثل "تويتر" وغيرها، بهدف إيصال المعلومات بسرعة، وتبادل الآراء حولها بما يوسع الآفاق، ويتيح تلاقح الآراء طلباً للحقيقة والرأي السديد. ولكن بعضهم حولها، مع سبق الإصرار، إلى أداة لترويج الأكاذيب، وخرب دورها في تبادل الحوار عبر تصنيع "روبوتات" بشرية للتشويش على أي حوار. وهكذا، نشهد استهداف مواقع الشخصيات ذات الوزن الفكري والأخلاقي بما يسمى "الذباب الإلكتروني"، وهي تسمية فيها إساءة لا تغتفر للذباب.
أتاح هذا الأسلوب بديلاً للتشويش على القنوات الفضائية المغضوب عليها أو إغلاق المواقع غير المرغوب فيها على الانترنت، لأنه يساعد في تعطيل كل نقاش حقيقي. فإذا كتب مغرّد على صفحته "لا إله إلا الله"، تدافع الذباب في تنافس محموم على التشويش فيصيح صائحهم: "ها هو هذا الملحد يجاهر علناً بأن لا إله، وكفى بذلك اعترافاً على نفسه!" ويضيف المجند الآخر: ومن أنت حتى تنطق بالشهادة؟ أمثالك يجب أن يصمتوا؟ ويقول ثالث: ومتى تعلمت اللغة العربية، وهل تفهم معنى الشهادة؟ وتكون نتيجة هذا الهراء إغلاق باب الحوار الفعلي. فلو ردّ العقلاء على الافتراءات التي لا علاقة لها بالموضوع، تحقق غرض هؤلاء بصرف الاهتمام عن موضوع الحوار الحقيقي، والدخول في مهاتراتٍ لا معنى لها. وإذا سكت الناس عنهم، اعتقد غير أهل العلم أن لما يقولونه قيمة.
مهما يكن، فإن مثل هذا "الذباب" هو تماماً مثل الروبوتات، بمعنى أنه غير قابل أصلاً للحوار. 
فهو مبرمج على نشر ترّهاته، التي قد لا يفهمها هو نفسه، ولا يهتم بما لو كانت حقيقة أم لا. وعليه، فهو ليس بوارد الاقتناع بأي رد عليه، حتى لو فهمه. لأنه لو قبل بالحق وسلم به لانقطع أجره.
والأسوأ من ذلك، إنه يعلم أنه كاذب، لأن من استأجره اتخذ الكذب سياسة. فلم نشهد في تاريخ العالم ترويج دول كذبة صنعتها، وهي تعلم قبل غيرها أنها كذب، ثم تتخذ على أساسها سياسات مدمرة للشعوب. فنحن بحق في عصر الكذب الرسمي، حيث تقوم منظومات إعلامية كاملة على الكذب وترويجه. وكنت قد نشرت، في منتصف التسعينيات، في دورية جامعة كولومبيا للعلاقات الدولية ورقة عن ظاهرة أسميتها "عصر الظلام في العالم العربي"، وبتعبير آخر، عصر "كسوف العقل"، تناولت بالتحليل نجاح تحالف دول الاستبداد والثراء النفطي في إسكات كل صوت عربي حر، بما في ذلك الإعلام في دول المهجر. وهكذا نجحت في تدمير المنظومة الإعلامية العربية التي نشأت منذ السبعينيات في المهجر الأوروبي طلباً للحرية خصوصاً بعد حرب لبنان وفقدان مصر دورها رئة العالم العربي الإعلامية، عقب وقوعها في قبضة الحكم العسكري. فبحلول نهاية الثمانينيات تم إسكات كل الأصوات العربية الحرة تقريباً، إما بالإرهاب والقتل والتفجير، أو بالشراء والإحلال والإبدال. فأصبحت الدول التي هرب الإعلاميون العرب منها إلى أوروبا هي التي تدفع مرتباتهم، وتملي مقالاتهم، وتدير صحفهم وقنواتهم.
وقد ظل الحال على هذا المنوال حتى ظهرت قناة الجزيرة التي يتهمها شانئوها بأنها أيقظت العرب من سباتهم، وأتاحت لهم المطالبة بالحرية والعدالة، فوجب إسكاتها ليعود الهدوء والسكينة والموت للعالم العربي، فيرتاح الطغاة ويعودوا إلى الاستمتاع بملذاتهم في هدوء وراحة بال. ولكن المشكلة أن "الجزيرة" لم تعد "مشكلة" هؤلاء الوحيدة، فهناك وسائط التواصل الاجتماعي المعروفة، والتي أصبحت خارجةً عن السيطرة. فما لم تتم إعادة العالم العربي إلى العصر الحجري، لم يعد إخفاء الحقائق ممكناً. ولهذا، فإن الأنظمة التي تربط بقاءها باستمرار الكذب والتضليل تواجه اليوم مشكلة حقيقية، تم ابتداع فكرة الذباب الإلكتروني للتعامل معها. وهي بالحق إبداع عربي يستحق براءة اختراع، ويمكن بالفعل أن نفاخر الأمم بإنجازٍ لم يسبقنا عليه أحد من العالمين، ما عدا المنافس الروسي بالطبع. فإن تحويل الشيء إلى نقيضه، وتحويل سلاح خصمك إلى سلاحٍ بيدك، هو بحق إبداعٌ ليت العرب كانوا قادرين على مثله في مجالات الخير والبناء.
ولكن، مثل كل اختراعات العرب، فإن لهذا الإنجاز حدوداً. ألسنا نحن من اخترع العمليات 
الانتحارية، أو على الأقل نقلناها إلى مستوى جديد، فجعلنا تدمير الذات وسيلةً لرد بأس العدو؟ ولكن، انظر إلى أين أوصلنا هذا الاختراع الخطير، حيث أصبح من يُقتل من العرب والمسلمين في العمليات الانتحارية (أو بذريعة محاربة "الإرهاب" التي قدّمتها هذه العمليات المنكرة) هو أضعاف من قُتل من أي عدو خارجي، ربما منذ أيام المغول. وقد تحول الأمر إلى "انتحار أخلاقي"، كما حدث للثورة السورية التي فجرت نفسها بطلبها النصرة من جبهات الخذلان. وما حال فلسطين بخير منها. ألا تتنافس حركة حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية اليوم على السجود والركوع لأعدى أعداء الأمة؟
على كلّ، فإن حبل الكذب قصير كما يقول المثل. ألم يفتضح أمر الكذبة الكبرى لدول حصار قطر خلال سويعات من حلفاء هذه الدول قبل خصومها، ولم تعد دول الحصار نفسها تردّدها، بل أصبحت تخجل حتى من الإشارة إليها، بل تم التوافق على تجاهلها من أجل الستر. في الوقت نفسه، فإن الشعوب قد حصّنت نفسها ضد كذب إعلامها الرسمي، ليس فقط بالتنقيب عن مصادر معلومات بديلة أصبحت متاحةً أكثر من أي وقت مضى، بل كذلك برفض تصديق كل ما يصدر عن الإعلام الرسمي، حتى لو كان حقاً. فعند كل تصريح يصدر من مسؤول، يقول المواطن: ماذا يقصد من هذا؟ وقدر رأينا كيف أصاب زلزال الربيع العربي أكثر الدول تحصّناً بالكذب، وكيف ثبت أن الناس لم يكونوا يصدّقون شيئاً من أباطيلها.
ولكن الكارثة الكبرى أن زعماء الكذب ينتهي بهم الأمر إلى تصديق كذبهم، ونسيان أنهم من اخترعه. وهكذا يهرول صاحبنا نحو الهاوية، ويصفق المنافقون لرقيّه في السماء. وإذا ما نبهه عاقلٌ إلى الصواب، سُجن المسكين أو أعدم، أو سلط عليه الذباب الإلكتروني. ثم لا نلبث أن نسمع دوي السقوط على خلفية دوي التصفيق، فتكون النهاية المناسبة.
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي