جامعة الدول العربية.. انتهاء الصلاحية

03 أكتوبر 2017

وزراء خارجية الدول المؤسسة للجامعة في مقرها عام 1948(Getty)

+ الخط -
هل ما زالت جامعة الدول العربية منظمة قابلة للحياة؟ أم أن صلاحيتها انتهت حقاً إما بمرور الزمن أو لعدم فائدتها؟ انتهى عصر التجمعات السياسية الإقليمية العربية، مثل مجلس التعاون العربي (العراق ومصر والأردن واليمن) واتحاد المغرب العربي، وها هو مجلس التعاون لدول الخليج العربي يتناثر هباء، وها هي الأزمة السورية تحوّل جامعة الدول العربية إلى زائدة ليس لها فائدة. ومع ذلك، يحلو لكُتّابٍ عربٍ كثيرين أن يجعلوا من جامعة الدول العربية دريئة يطلقون عليها سهامهم، ويحملونها مسؤولية انحطاط الأحوال السياسية للدول العربية، أو على الأقل الإسهام في هذا الانحطاط. ولا ريب أن الجامعة، كشخصية اعتبارية، تتحمل بعض المسؤولية، لكن مسؤوليتها تلك تبقى محدودة ومحددة في نطاق السلطات الممنوحة لها، وهي قليلة جداً؛ فالقاعدة تقول "إنك لا تستطيع أن تأخذ بيضاً من السلّة أكثر مما تضع فيها". وبهذا المعنى، فإن جامعة الدول العربية مرآة عاكسة لحال العرب، ولسياساتهم، وليست صانعة لها.

حكاية أنتوني إيدن
لا يتوانى الطاعنون في تاريخ جامعة الدول العربية عن تكرار الكلام على ارتباط تأسيس الجامعة بالسياسة البريطانية في أثناء الحرب العالمية الثانية، ويعيدون إنتاج المقولة المعروفة إن البريطانيين هم الذين أنشأوا هذه المنظمة الإقليمية العربية. ولنا في هذا الأمر إيضاح وتفصيل.
في 29 /3 /1940، أي في معمعان الحرب العالمية الثانية، أعلن وزير خارجية بريطانيا، أنطوني إيدن، وكانت بلاده تحتل آنذاك مصر وفلسطين والأردن والعراق، تصريحه: "إن كثيرين من مفكري العرب يرغبون في أن تتمتع الشعوب العربية بنصيبٍ من الوحدة أكبر من الذي تتمتع به الآن، وهم يأملون منا المساندة في تحقيق هذه الوحدة. لذلك لا يجوز لنا أن نهمل أي دعوةٍ يوجهها إلينا أصدقاؤنا العرب في هذا الصدد. ويبدو لي أن من الطبيعي، ومن الحق أيضاً، أن تتوثق الروابط الثقافية والاقتصادية والروابط السياسية بين الدول العربية. وبناء عليه، ستساند حكومة جلالة الملك، مساندة تامة، أي مشروعٍ تتم الموافقة عليه في هذا الصدد".

لم يتنبه أحد في أوروبا، أو في العالم العربي، لهذا التصريح وأبعاده، واعتقد بعض ساسة العرب أنه مثل "الكتاب الأبيض" لسنة 1939 الخاص بالشأن الفلسطيني، مجرد إعلان، ومن غير المحتمل أن تترتب عليه أي سياسة جدية. وحين بدأ العالم يكتشف أن دول المحور سائرة إلى الهزيمة، وأن دول الحلفاء ستخرج من الحرب العالمية الثانية بانتصار كبير، عاد إيدن إلى تصريحه المشهور، ورغب في إعادة الحياة إليه، فأوعز إلى أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني (وهو من حزبه، المحافظين) بأن يوجه إليه سؤالاً في البرلمان عن الإجراءات التي اتخذتها بريطانيا لتحقيق التعاون السياسي والاقتصادي بين الدول العربية. وقد اهتبل إيدن هذه الفرصة ليجيب: "الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى أي حركةٍ بين العرب، تهدف إلى تعزيز الوحدة الثقافية والاقتصادية أو السياسية فيما بينهم. ولكن، من الواضح، أن الخطوة الأولى في هذا الصدد يجب أن يقوم بها العرب أنفسهم". وتلقف رئيس وزراء مصر في حينه وزعيم حزب الوفد، مصطفى النحاس باشا، هذا التصريح ليقف في مجلس الشيوخ المصري في 29 مارس/ آذار 1943، ويلقي بياناً عن فكرة إنشاء جامعة للدول العربية. وهكذا بدأ السعي العملي نحو تأسيس الجامعة، فعُقدت جولة المحادثات التمهيدية في قصر أنطونيادس في الإسكندرية برئاسة النحاس، وأمكن التوصل إلى بروتوكول الإسكندرية في 7 /10/ 1944، ثم وقع الجميع ميثاق الجامعة في 22/ 3/ 1945.
جاء تصريح أنطوني إيدن عن حاجة الدول العربية إلى علاقات أوثق في ما بينها قبل معركة العلمين التي اندلعت لاحقاً بين قائد جيوش المحور في شمال أفريقيا، الماريشال رومل، وقائد جيوش الحلفاء في المنطقة نفسها، الجنرال مونتغمري، في سباقهما للاستيلاء على قناة السويس. وكان إيدن يريد أن يستأثر بتأييد العرب في مواجهة الزحف الألماني. وهذا يعني، من جانب آخر، أن الأوضاع الخارجية الضاغطة على بريطانيا آنذاك قدمت للعرب فرصة سياسية مهمة، لكن ذلك لا يعني أن جامعة الدول العربية صنيعة بريطانيا؛ فألمانيا أيضاً وزعت الوعود والتحالفات على العرب، وتعهدت بتحقيق الوحدة العربية ومحق اليهود في حال انتصرت في الحرب، فأجابتها بريطانيا بوعودٍ مماثلة. وحدهم الفرنسيون كانوا أبشع أنواع الاستعمار، فما إن وطئت أقدامهم الأراضي السورية، حتى قسموها دولاً طائفية: دولة للعلويين وأخرى للدروز وثالثة للمسيحيين (لبنان) ودولتان للسنة في حلب ودمشق، وسنجق الجزيرة، وسرقوا لواء الإسكندرون وباعوه إلى تركيا.

الدور الإقليمي وحدوده
جامعة الدولة العربية هي أقدم منظمة إقليمية في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، فقد أُسست في 22/ 3 /1945. ووقع بروتوكولها وميثاقها الدول العربية: مصر، سورية، العراق، الأردن، اليمن، لبنان، السعودية. وهي، بحسب التعريف القانوني، جامعة دول، وليست جامعة شعوب. ثم إنها ليست أداة تنفيذية كحلف شمال الأطلسي (الناتو)، لأنها، بكل بساطة، لا تمتلك وسائل تنفيذية. وجل ما تستطيعه هو إدارة الخلافات، لأنها لا تمتلك القوة الذاتية، وليست لها صلاحيات فوق صلاحيات رؤساء الدول العربية وأمرائها وملوكها، ولا سيما أن أصغر دولة قادرة على جعل الإجماع ممتنعاً؛ فالقافلة عند العرب تسير بسرعة الجمل الأضعف. ومع ذلك، كانت جامعة الدول العربية، كهيئة اعتبارية لها بعض الاستقلال النسبي، تؤمِّن الحد الأدنى من التضامن العربي، وكانت ميداناً لقياس اتجاهات السياسة العربية، ومجالاً لحل الخلافات العربية – العربية. وللأسف الشديد، ما عادت هذه المهمة موجودة اليوم ألبتة، وقد تدهورت الأحوال منذ سنة 1979 مع انتقال المقر من القاهرة إلى تونس، ثم ازدادت تدهوراً في عهد الأمين العام نبيل العربي الذي جيّر الجامعة للسعودية. وفي الماضي القريب، كان دور الجامعة مقصوراً على البُعد التوفيقي بين الدول العربية، وعلى السعي إلى تنقية الأجواء بينها، وكان ذلك يجري في سياق وجود قاطرة مهمة هي مصر، ووجود رئيس كبير وزعيم ساحر هو جمال عبد الناصر، وفي سياق صعود حركات التحرّر الوطني ومواجهة الاستعمار والسعي إلى الاستقلال. أما اليوم، فإن هذا الدور انقلب تماماً إلى سياق مختلف، هو سياق تحول بعض الدول العربية إلى سماسرة للولايات المتحدة الأميركية، وإلى مروجي سياستها في المنطقة، وإلى دعاةٍ للتصالح مع إسرائيل، حتى قبل أن ينال الفلسطينيون الحد الأدنى من حقوقهم التاريخية.


وظيفة سياسية بلا نظام سياسي
لم تتمكن جامعة الدول العربية، استناداً إلى ميثاقها المنشئ، أن تطور نظاماً سياسياً عربياً إقليمياً، أكان ذلك في ميدان الأمن القومي أو في حقل الاقتصاد، لأن النظام السياسي العربي الرسمي الذي كان سائداً، طوال أواخر الأربعينيات ومعظم خمسينيات القرن العشرين وستينياته، كان يتميز باختلالاتٍ عدة، منها عدة التناسب في مكانة الأقطار العربية واتجاهاتها السياسية في إطار الجامعة. وعلى سبيل المثال، لم تكن الفكرة العربية في مصر وشمال إفريقيا عند المستوى نفسه في بلاد الشام والعراق؛ فقد كان الإسلام في شمال إفريقيا هو السائد، وكان متمازجاً بالنضال ضد الاستعمار، على عكس الفكرة القومية في المشرق العربي، التي وإن كانت متمازجة جزئياً بالإسلام، إلا أنها كانت تستمد روافدها من منابع علمانية أو شبه علمانية. كذلك كان ثمّة تباين في النظرة إلى المسألة القومية، وعزّزت المصالح الوطنية، غداة استقلال الدويلات القطرية، هذا التباين. وكان من جراء ذلك ظهور نزعة التجمعات الفرعية. فقد حاول الأردن والعراق أن ينسحبا من جامعة الدول العربية في 1946 تمهيداً لإعلان "الاتحاد الهاشمي"، لكن هذه المحاولة لم تُكلل بالنجاح آنذاك. وهنا، فشلت جامعة الدول العربية في منع ظاهرة التجمعات الفرعية، مثل مجلس التعاون لدول الخليج العربية (السعودية والإمارات والكويت وعُمان وقطر والبحرين) الذي ظهر في 1981، و مجلس التعاون العربي (مصر والعراق واليمن والأردن) الذي أُنشئ في 1989، و"اتحاد دول المغرب العربي" الذي أُسس في 1989 أيضاً، ولم يبقَ خارج هذه التجمعات إلا سورية ولبنان والسودان. وفي جميع الأحوال، لم تقدم هذه التجمعات طرازاً وحدوياً أفضل من صيغة جامعة الدول العربية.

أزمات بلا حلول
قامت جامعة الدول العربية على مبدأ احترام سيادة كل دولة واستقلالها، وعلى مبدأ فض النزاعات العربية بالتفاهم، فيقول ميثاقها: "لا يجوز الالتجاء إلى القوة لفض النزاعات بين دولتين أو أكثر من دول الجامعة. فإذا نشب بينها خلافٌ، لا يتعلق باستقلال الدولة أو سيادتها أو سلامة أرضها، ولجأ المتنازعون إلى المجلس لفض هذا الخلاف، كان قراره عندئذٍ نافذاً وملزماً. وفي هذه الحالة لا يكون للدول التي وقع بينها الخلاف الاشتراك في مداولات المجلس وقراراته" (المادة الخامسة من الميثاق)، غير أن الجامعة لم تتمكن من جعل الدول العربية تلتزم هذا المبدأ ألبتة، وحتى اتفاقية الدفاع المشترك الموقعة في 13 /4 /1950 لم تشهد تطبيقاً واحداً لبنودها، وما شهدناه هو اللجوء إلى القوة لفض النزاعات مثل المغرب والجزائر، ومصر وليبيا، والعراق والكويت، والسعودية واليمن.
أول أزمة واجهتها الجامعة كانت العدوان الفرنسي على دمشق، حين قصفت المدفعية الفرنسية أحياء دمشق ومبنى مجلس النواب في 29 /5/ 1945، ولم تستطع الجامعة أن تفعل شيئاً، بينما وجهت قيادة الجيش التاسع البريطاني إنذاراً إلى الجنرال الفرنسي، أوليفييه روجيه، باسم قوات الحلفاء لوقف العمليات العسكرية ضد الشعب السوري. والأزمة الثانية كانت تصريح الرئيس الأميركي، هاري ترومان، في 24/ 9/ 1945، حين أوصى بالسماح لمئة ألف يهودي أن يهاجروا إلى فلسطين. ولما اعترضت الحكومة البريطانية، جرى تأليف لجنة لتقصي الحقائق، هي لجنة التحقيق الأنكلو – أميركية التي أذاعت توصياتها في 20 /4 /1946، والتي تضمنت السماح بهجرة مئة ألف يهودي إلى فلسطين سنوياً. وفي 8/ 6/ 1946 عقد مجلس الجامعة مؤتمراً طارئاً في بلودان، واتخذ قراراً يهدد بفرض المقاطعة الاقتصادية على الولايات المتحدة وبريطانيا وإلغاء امتيازاتهما في البلاد العربية في حال تطبيق مقررات لجنة التحقيق الأنكلو- أميركية. وعلى الرغم من أن ترومان أرغم العالم على القبول بتقسيم فلسطين في 1947، إلا أن الجامعة وقفت عاجزة أمام قرار التقسيم.
منذ 1950 فصاعداً شهد العالم العربي خلافات عربية – عربية متمادية، مثل ضم الأردن الضفة الغربية في 1950، والمشكلة اليمنية في 1962، والصراع المغربي – الجزائري على الصحراء الغربية منذ 1963، ولم تتمكن جامعة الدول العربية من فض هذه المنازعات، حتى أنها لم تستطع إرغام المغرب على قبول قرار مجلس الجامعة الصادر بالإجماع في 19/ 10 /1963 (عدا المغرب بالطبع) وقضى بمطالبة حكومة المغرب سحب قواتها إلى المواقع التي كانت فيها قبل اندلاع الاشتباكات مع الجزائر. كذلك لم تفعل جامعة الدول العربية أي أمر لمنع زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس في 1977، أو لمنع توقيع اتفاق كامب ديفيد مع إسرائيل في 1978، أو معاهدة السلام في 1979، وينطبق الأمر نفسه على الحربين، الصومالية واليمنية، واستيلاء إيران على الجزائر الإماراتية الثلاث في الخليج العربي، أو لتلافي اجتياح العراق الكويت في 1990، وكذلك وقفت عاجزةً عن معالجة
الحرب على العراق في 2003، والحرب المتمادية على غزة، ولا سيما في سنتي 2008 و2014، وانفصال جنوب السودان عن شماله في 2011. وما فعلته هو تأمين الذريعة للتدخل الأميركي المباشر في العراق في 1991، وفي ليبيا سنة 2011. وفي الوقت نفسه، استنكفت عن اتخاذ مواقف محايدة ومجمع عليها في الأزمة السورية.
فشلت الجامعة (وهذا يعني بلغة أخرى فشل العرب) في تأسيس "مجلس أمن عربي" و"محكمة عدل عربية"، بعدما صار الأمن العربي برمته مدوَّلاً، وبالتحديد منذ 1991 فصاعداً، حين تواطأت دول عربية كثيرة على العراق، وسهلت هذه الدول عملية الانقضاض على هذا البلد العربي. ومن عجائب ما اتفق في ذلك الزمن، بل في هذا الزمن، أن قادة الدول العربية لم يحاولوا أن يفعلوا شيئاً لرئيس عربي جرى تسميمه ومحاصرته (ياسر عرفات)، ولم يتحركوا لمنع شنق زميل لهم (صدام حسين)، ولم يستنكروا مطاردة رئيس آخر (عمر البشير)، وتشفّوا حين اغتال الأميركيون بوحشية ودناءة رئيساً رابعاً (معمر القذافي).
يبرهن هذا الفشل المتمادي والمتتالي، مجدداً، ضعف استقلالية البلدان العربية. وللأسف، فإن أي بلد عربي تراه يشدّد دائماً على استقلاله في مواجهة البلد العربي المجاور. لكنه يصبح، إزاء القوى الدولية الكبرى، مباحاً تماماً وبإرادته. ولعل هذه الحال المهينة تفاقمت منذ وقع أنور السادات مع إسرائيل اتفاق كامب ديفيد في 1978، وكان من شأن ذلك أن انشطرت جامعة الدول العربية بين القاهرة وتونس، وما عادت العروبة رابطةً متينةً بين الدول العربية، واندلعت الصراعات العربية – العربية بعدما كنا نعتقد أن العرب لا يقاتلون العرب. لكن السادات هتك هذه القاعدة، عندما شن هجوما على ليبيا، وفعل صدام حسين مثله حين اجتاح الكويت، وقبل ذلك تقاتل المغرب والجزائر بالنار على رمال الصحراء.
انحطاط جامعة الدول العربية، وتلاشي وظيفتها بالتدريج، لم يأتِ عفو الخاطر، بل لأن مصر التي كانت قاعدة النظام السياسي العربي، في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، صارت دولة أقل من عادية في عهد أنور السادات، وتراجعت مكانتها السياسية والتاريخية إلى حدودٍ دنيا، ثم جاءت طفرة النفط لتجعل من السعودية قطباً سياسياً لا يمتلك من مقومات الدول إلا صفة الريعية. وبهذا المعنى، فإن جامعة الدول العربية التي تفاقمت أمراضها، منذ زيارة أنور السادات القدس في 1977، تحولت اليوم أداة في أيدي الدول العربية السائرة في فلك السياسة الأميركية. وتبدو مصر الضعيفة جداً اليوم كأنها تصادر دور الجامعة في حالاتٍ كثيرة، ويبدو الأمين العام (المصري عرفاً) كأنه ملحق في وزارة الخارجية المصرية، وكأنه موظف في الإدارة المصرية.

الجامعة وفلسطين
أخفقت جامعة الدول العربية منذ اتفاق السلام المصري - الإسرائيلي في 1979، وكذلك القمم العربية، في صوغ التزام عربي مشترك في مواجهة إسرائيل (ما عدا إعلان بيروت في سنة 2002)، فالجامعة المتهمة بأنها قامت بتشجيع بريطاني لم تتمكّن من التأثير في بريطانيا سنة 1947 لمنع تقسيم فلسطين. ومن غرائب هذه المؤسسة أن موسى العلمي الذي شارك في مشاورات تأسيسها لم يستطع إقناع العرب بقبول فلسطين عضواً كامل العضوية فيها، وبقيت
الحال على هذا المنوال حتى 1976. حتى "المشروع العربي" الذي أسسه موسى العلمي في 1946 في إطار الجامعة، برأسمال مليون جنيه، لشراء الأراضي في فلسطين التي يُخشى تسربها إلى الصهيونيين، لم يتمكّن من شراء متر مربع واحد حتى 1948، وانتهى المشروع بسقوط فلسطين. ولعل حرب 1948 كانت الأولى والأخيرة التي خاضتها الجيوش العربية بقرار من مجلس الجامعة، ثم تحولت قضية فلسطين، بعد ذلك، إلى الأمم المتحدة. ومن غرائب الأحوال أن جامعة الدول العربية لم تدافع حتى عن الاتفاقات والبروتوكولات التي وُقِّعت في كنفها، مثل معاملة الفلسطينيين في الدول العربية كمواطنين عرب (عدا التجنيس)، ولم تحاول تخفيف وطأة الحرب على المخيمات في لبنان بين الأعوام 1985 و1987، فضلاً عن إنقاذ الرئيس ياسر عرفات إبّان حصاره في رام الله بين الأعوام 2000-2004. ثم فشلت في منع التطبيع مع إسرائيل، مع أن مكتب مقاطعة إسرائيل هو أحد مؤسسات الجامعة، ولعل ذلك راجع إلى أن الدول العربية التي تقيم علاقات سرية أو علنية بإسرائيل صارت الأكثر تأثيراً في قرارات الجامعة، مثل مصر والسعودية والأردن.

لا بد من إنجازات
تخفي هذه الصورة الكالحة إنجازات قليلة حققتها جامعة الدول العربية خلال اثنتين وسبعين سنة. أحدها رفض توصيات اللجنة الأنكلو – أميركية سنة 1946، والدعوة إلى عقد مؤتمر أنشاص في مصر في 28 /5/ 1946. وكذلك إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية في 1964، ولولا زعامة جمال عبد الناصر لما أمكن الاتفاق على هذه المسألة. ويمكن العودة، في سلسلة الإنجازات، إلى لاءات مؤتمر الخرطوم في 1967 (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض)، وقرار وزراء البترول العرب استخدام سلاح النفط في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني (مؤتمر الرباط 1974)، ودعم دول المواجهة مالياً في مؤتمر القمة العربية في 1978.

* * *
لا تتحمل جامعة الدول العربية، كهيئة سياسية اعتبارية، مسؤولية الأحوال التي صار إليها العرب، على الأقل منذ هزيمة يونيو/ حزيران 1967، فالجامعة هي صورة العرب، ومرآة أوضاعهم، ومن المحال أن تكون مؤسستهم مقدامة وهم متراجعون، أو حرة وهم منقادون، أو مستقلة وهم ذيليون. وسيكون من الظلم أن نحمّل الجامعة أوزار دولها، وهي المؤسسة الأضعف بين المؤسسات العربية قاطبة.