أزمة صحافة

09 يناير 2017
+ الخط -
بعد أكثر من أربعين عاماً، توقفت صحيفة السفير اللبنانية عن الصدور، وهي التي لم يتوقف صدورها اليومي في أثناء الغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وواكبت أحداثاً ساخنةً عديدة في لبنان والمنطقة. أعلنت الاحتجاب أخيراً، ونهاية مسيرة عقود، قدمت خلالها تغطيات وحوارات مهمة، ومساحةً لكبار الكتاب والمثقفين العرب، أثروا من خلالها القارئ العربي بآرائهم وتحليلاتهم. اختارت "السفير" قيم العروبة ومقاومة الاحتلال عناوين أساسية لخطها العام، وانحازت، بوضوح، كما تنحاز كل وسائل الإعلام في العالم، لما تراه يمثل قيمها، ودافعت عن تلك القيم ببسالة، لكنها تميزت عن صحف ووسائل إعلام عربية أخرى كثيرة بإعطائها مساحة واسعة لكتاب ومثقفين يساجلون خطها العام، ويختلفون مع موقفها السياسي، ويطرحون رؤيتهم من زاوية أخرى.
يخسر القارئ العربي كثيراً باحتجاب "السفير"، فقد اتسمت تاريخياً بالرصانة، وأثرت قراءها بعمل صحافي مميز، وصحافة رأي تحفّز التفكير والنقاش الجاد، ولم يكن عملها خالياً من جوانب تستحق النقد، غير أنها تركت، في المجمل، أثراً ثقافياً كبيراً عند قرائها. لذلك، يتساءل قراءٌ كثيرون حول سبب التوقف، وما إذا كان أزمةً ماليةً عصفت بالصحيفة، كما تعصف بصحفٍ أخرى في لبنان والوطن العربي، أم مشكلة إدارية وتنظيمية، أو خليطاً من هذا وذاك؟ هذه التحليلات عادةً تجلب معها نقاشاً يتجدّد باستمرار، حول مستقبل الصحف الورقية، وأزماتها حول العالم، وإمكانية بقائها في ظل تسارع التقدم التكنولوجي، وتناقص قراء الصحف الورقية.
بسبب أزماتها المالية، وتراجع الإقبال على نسخها الورقية، اتخذت صحفٌ عالمية، مثل "الإندبندنت" البريطانية، قراراً بالاكتفاء بموقعها الإلكتروني، وإيقاف النسخة الورقية، وهو يبدو توجهاً مستقبلياً لصحفٍ كبرى في العالم. في الوطن العربي، تشكو الصحف بشكل أكبر من قلة الإعلانات، وتضاؤل الاشتراكات، وفي الغالب، لم تتمكّن الصحف من استثمار مواقعها الإلكترونية لتحصيل دخلٍ يساعدها في تجاوز أزماتها المالية، بل إنها اكتفت بطرح المحتوى الورقي إلكترونياً، من دون تطوير الموقع، والتعامل معه باهتمام، ومنحه مواد حصرية تجذب متصفحي "الإنترنت".
تبقى مشكلة التمويل أساسية، وهو ما يجعل الصحف رهينة أجندات مموليها في الغالب، وفي حالة استقطابٍ مثل التي نعايشها عربياً في السنوات الأخيرة، تتحوّل وسائل إعلام إلى منابر للتعبئة والتحشيد، وفقاً لمواقف (وميول) مموليها من الأنظمة، أو رجال الأعمال المقربين من الأنظمة، وتصير أسلحةً لمواجهة الخصوم، ضمن المعركة السياسية والعسكرية. المعادلة المتمثلة في تحصيل تمويلٍ جيد والحفاظ على قدرٍ عالٍ من الاستقلال، يصعب تحقيقها في الوطن العربي، إضافة إلى خطوط حمراء كثيرة داخل الدولة العربية نفسها، وبخصوص معالجة ملفاتٍ عربية أخرى، تكبِّل الصحف ووسائل الإعلام عموماً بقيودٍ ثقيلة، وتسهم في تراجع مصداقيتها.

أسهمت الوفرة المالية، عند جهات أو أنظمة بعينها، في تعزيز هيمنتها على الفضاء الإعلامي العربي. وعليه، تحولت صحف ووسائل إعلام كثيرة إلى نسخٍ من بعضها، تقدّم للرأي وصداه، وتتردّد من خلالها التحليلات والآراء، مثل ترديد أناشيد الطلاب في المدارس، وقد عمدت وسائل الإعلام هذه إلى تكثيف مخاطبتها الغرائز في الفترة الماضية، تبعاً للصراع القائم في المنطقة، والنزول إلى الدرك الأسفل من الابتذال والكذب وغياب المهنية والمصداقية. بات الصوت العالي لإعلامٍ من هذا النوع طاغياً، إلى درجة إضعاف تأثير الإعلام الرصين، وتعويد المتلقي على سيل معلوماتٍ يأتي من مصادر غير واضحة أو مجهولة، بدلاً من الالتزام بمعايير مهنية، وتقديم عمل صحافي استقصائي، يحرص على دقة المعلومة التي يوصلها إلى المتلقي.
لا تقف المشكلة عند التمويل، وغياب المداخيل، بل تتعدّاها إلى طبيعة المحتوى الملائم لجذب القرّاء. أسهمت القنوات الفضائية بدايةً، ثم انتشار استخدام مواقع التواصل الاجتماعي تالياً، في تقليص قيمة الخبر المنشور في الصحف، وصار الحديث يتركّز حول عدم أهمية خبر الصحيفة الصادر بعد انتهاء صلاحيته، بتداوله على نطاق واسع قبل نشره في الصحيفة، لكن هذا الحديث يُغفل ما يمكن أن تقدّمه الصحيفة لمتلقي الخبر من معلوماتٍ إضافيةٍ عبر التحقيق والاستقصاء، أو تحليلاتٍ مهمةٍ لانعكاسات الخبر وآثاره. عند الصحف ما يمكن أن تتميز بتقديمه، حتى في زمن التواصل الاجتماعي، وهي تستطيع استثمار كل هذا التقدّم التكنولوجي لترويج موادها التي يفترض أن تقدم إضافةً إلى القارئ.
تتضرّر الصحف بالطبع من مواقع التواصل الاجتماعي، لناحية اعتماد الأخيرة على المقاطع القصيرة، وتعويد الناس على قراءة المقتطفات والاختصارات المعلبة، وهو أمرٌ لا يخدم عملاً صحافياً جاداً، يصبح في هذه الحالة موّجهاً للنخب غالباً، لكن هذا الأمر يهون عند مشكلة التمويل، فهذه المشكلة تبدو الأساس في مشكلات الصحف الورقية في العموم، وندرةِ أي محاولات صحافية جادة لتقديم عمل مستقل إلى حد كبير له انحيازاته بالطبع، لكنه ليس مجرد منبرٍ دعائي لهذه الجهة أو تلك.
غياب "السفير"، وتراجع مؤسسات عربية إعلامية وثقافية رصينة ومرموقة، جزء من حالة تراجع عامة، أصابت الوسط الإعلامي والثقافي العربي في السنوات الماضية. أما أزمة الصحافة العربية فهي لا تقتصر على التمويل أو حرية التعبير المتقلصة أكثر فأكثر، بل تتعدّاها إلى أزمة المحتوى، المتمثلة في غياب العمل الصحافي الرصين، لصالح المهمة الدعائية، وتعبئة الجمهور، وزيادة احتقانه.
9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".