ما بعد النسوية

09 سبتمبر 2016

(فاتح المدرس)

+ الخط -
قضية تحرير المرأة ساخنةٌ في ثقافتنا العربية المعاصرة، منذ سمعت بها في زمن نابليون. معركة كلامية يقاتل فيها محاربون تقدّميون، من طراز قاسم أمين، ضد محاربين رجعيين من كلّ طراز، جبهة تقول إنّ الإسلام ينادي بتحرير المرأة ضد جبهةٍ تقول إنّه لا ينادي، من دون أن يلاحظ أحدٌ أنّ الإسلام ينادي بتحرير الإدارة أولاً، وأنّ تأهيل المرأة للعمل تحت إدارة إقطاعية فكرة لم يقلها نابليون نفسه، لأنّها لا تُحرّر امرأةً ولا رجلاً، ولا تغيّر شيئاً من واقع المرأة الأبدي، باعتبارها جارية أو موظفة مُسخّرة لخدمة طاغيةٍ ما.
تستطيع المرأة أن تخرج من بيتها إلى ميدان العمل، لكن ذلك لا يضمن لها العمل نفسه، ولا يعني أن زوجها لا يجلس عاطلاً طوال عمره، وأنّ ولدها لا تعتقله المخابرات، وأنّ ابنتها لا تبيع جسدها للسياح، وأنّ أمها العجوز لا تموت من الوحدة والجوع، ذلك كله لا تضمنه المرأة الحرّة، بل الإدارة الحرة، وهي حقيقة تبدو بديهية، لكن ثقافتنا الكلامية المعاصرة أظهرت قدرة ملحوظة على تجاهل البديهيات.
بهذه الكلمات، عبّر الصادق النيهوم عن رأيه في القضايا النسوية، وهو كلام يتجاوز المرئي الشائع والمتسطّح البديهي، مفاده بأنّ الحقيقة ليست تحرير المرأة بالمعنى البرّاق لها، بل إعادة تأهيلها، تحت إدارة إقطاعية. وبالتالي، لن تنتهي المشكلة، لأنّها مشكلة إدارة سياسية توّلد الأزمات وتصدّر الفشل، وهذا يَغفل عنه كثيرون، ويَجْبُن عنه الأكثر، لأنّه المصدر الأساسي لصنع العوائق أمام المرأة.

ظهرت مرحلة ما بعد النسوية تحاول استعادة الثقة الثقافية والاجتماعية والحقوقية لقضايا المرأة، بعد أن بَدَت فكرة النسوية لمؤيديها غير تامة، وأنّ هناك خللاً ما، فيا ترى، أين كان الخلل؟
النسوية التي تفد إلينا الآن هي أفكار منتصف القرن المنصرم في الغرب، وهي مرحلة تمّ تجاوزها تحت وطأة محاولات ترميم آفاتها الثقافية والفكرية، وهذا ليس هجوماً، بل تفسير واقعي، مفاده بأنّ النسوية كانت تختزل صراعها مع الرجل. وبالتالي، يوضح هذا الأمر لنا أنّ الصراع النسوي كان موجّهاً بشكل تلقائي إلى افتعاله داخل مؤسّسة الأسرة، ما أعطى القيم الليبرالية والنيوليبرالية، فيما بعد، الثغرات والحُجج لتهشيم مؤسّسة الأسرة وتحرير المرأة كذات اقتصادية باسم الحقوق، بينما، في الحقيقة، تمكينها من أن تكون فأراً في عربة الرأسمالية كمُنتج وكمُستهلك، تقتات البضائع بالخروج بحريةٍ في أثناء عُطل نهاية الأسبوع.
هنا كان الخلل، فقد كان الصراع داخل مؤسسة الأسرة فقط، ضد الأب أو الأخ أو الزوج، ما يعني أنّ الدولة نجحت في حرف مسار النسوية النضالي، وهي فكرة شجبتها النسوية الماركسية عبر ماركس نفسه، ذلك أنّ "ملحداً" بكل ما هو مؤسساتي، اسمه ماركس، اقترح فرض راتب لربّات المنزل جرّاء تطور التكاليف داخل المجتمع الرأسمالي، وأنّ هذا "الملحد" تجاوز الفوضوية بقراءة واقعية، كان يقدّم فيها الحلول لصالح مؤسسة الأسرة كإجراءات احترازية ضد نيات (ومناورات) المؤسسات الليبرالية، والتي تسمّي نفسها اليوم باسم مؤسسات المجتمع المدني.
كان الفشل للحركة النسوية بسبب انحرافها عن أساس أهدافها، ففي بداياتها، أو الموجة الأولى كما تسمّى، كان الهدف هو الحقوق السياسية في المقام الأول، أيّ ضد مؤسسات الدولة. وعند ظهور الموجة الثانية، تمّ حَرف مسار النسوية بعد إشباعها بشعارات وأفكار زائفة، حيث وجدت المرأة نفسها في صراعٍ مع الرجل. وبالتالي، كانت تلك المجتمعات قد وجدت نفسها تعيش ما يشبه الزلازل الأسرية.
في أواخر الثمانينيات، تمّ تجاوز النسوية (نسوية الموجة الثانية) التي نعيش اليوم في زيفها، ونقتات تجاربها، ظنّا منّا أنّنا نجرّب جديداً، من دون أن ندري أنّها تجربة مستهلكة، وبنتائج انقضى عليها عقود. لكن، وفي أواخر الثمانينيات ظهر اتجاه ما بعد النسوية، وهو أكثر اعترافاً بطبيعة المرأة والانحياز لنوعها كأنثى. ووجدت "ما بعد النسوية" نفسها حركةً مضادّة للنسوية. لذا أعادت طرح بعض الأسئلة، وأخذت طابعاً فلسفياً تفكيكياً للنسوية، حيث كان السؤال الأهم للحركات ما بعد النسوية: أين الحقوق السياسية؟ ليعدن به الحركة النسوية إلى الهدف الذي قامت من أجله في موجتها الأولى. واللافت أنّ الحركة النسوية تخلّت عن تصوير الرجل ديكتاتوراً متعسفاً، ورأت أنّ الرجل يشاركها، في أحيان كثيرة، المظلومية نفسها، لتنتج لنا "ما بعد النسوية" هنا فكرة مفادها بأنّ الدولة من تتحمّل ذلك كله.
لا تعدّ الحكاية لغزاً صعباً، فالصراع الثقافي حول المرأة في الحركات النسوية اتخذ آلية المناورات بامتياز، وقام بتطبيع المراوغة في نفسية الأفراد، وهو كأمثاله من الصراعات الفكرية الأخرى. لكن، كانت نبوءة الصادق النيهوم تشير إلى مصنع العوائق ومعمل المشكلات الحقيقي، في فكرة أنّ النسوية وما بعد النسوية، وبالجمع بين نظريات المرحلتين، يكتشف القارئ أنّ هناك مجتمعات تدور حول نفسها من دون أن ينتبه أحدٌ إلى الأسئلة والمشكلات الحقيقية.
avata
بدر الشمري

كاتب عربي خليجي