شبهة العربية

15 اغسطس 2016

(محمد أوزجاي)

+ الخط -
في القاعة المكتظة بهواة الموسيقى الكلاسيكية في لندن، أشعر بصوتي يخرج غريباً، وأنا أتحادث مع زميلتي بالعربية في انتطار بداية العرض. أسمع وقع الكلمات تخرج بالعربية، وكأنها تحمل معنى مختلفاً. هنا لندن، حيث الاختلاف الثقافي كان، في وقت غير بعيد، إحدى الهويات الرئيسية للمدينة المتنوعة في مشارب أبنائها، وأهوائهم وثقافاتهم ولغاتهم. في بريطانيا ما بعد الاستفتاء على البقاء في الاتحاد الأوروبي، وفي فورة العنصرية التي تلت نتائجه، بات استخدام اللغة العربية في المجال العام بمثابة الشبهة، كما باتت قراءة الكتب العربية، أو التي تتناول شأناً عربياً على متن طائرةٍ، مدعاة لشبهة الخطر. ماذا يعني أن تكون حاملاً إمكانية أن تكون مشتبهاً به، لمجرد أنك تنطق بلغتك، أو تحمل آثارها في معالمك، وكيف تتعايش مع هذا الواقع الجديد الغريب؟
صادم خبر التحقيق مع سيدة اختارت أن تقرأ على متن طائرة كتاب "سوريا تتكلم"، في ما اعتبره أحد أفراد الطاقم على متن الطائرة تعبيرا عن "سلوكٍ مشبوه". لم توقفها الشرطة مباشرة، بل عند عودتها من تركيا، حيث أمضت السيدة، وهي غير محجبة، ولا تبدي أي إشارة إلى تديّن، شهر العسل، ليتم إخضاعها للتحقيق وفق قانون الإرهاب. أحدث الخبر الذي تناوله الإعلام البريطاني بشكل واسع صدمةً لاعتباره أول حدثٍ من نوعه على متن رحلة بريطانية. يحدث ذلك بتواترٍ على متن رحلات خطوط أميركية، حيث باتت أخبار الطلب من ركابٍ عربٍ أو مسلمين النزول من الطائرة لاشتباه الركاب، أو الطاقم، بهم، أمراً عادياً. أن يحدث ذلك في بريطانيا فهو أمر آخر، لا يمكن أن يعد حادثاً فردياً مع تواتر أخبار الاعتداءت ذات الطابع العنصري. ارتفعت مبيعات الكتاب الصادر عن دار الساقي بالعربية إلى حدّ دفع الناشر إلى تأمين ألف نسخة إضافية. تقول السيدة فايزة شاهين التي قدمها الإعلام امراة مسلمة بريطانية أنها تلقت رسائل في "تويتر" من مستخدمين، قالوا إنهم اشتروا الكتاب تعبيراً عن تضامنهم معها.

إذا كنت مسلماً تعيش في بريطانيا، أو غيرها من دول الغرب، عليك أن تكون حذراً، متديناً أو علمانيا لا فرق، عليك أن تخفي معالمك الثقافية، أو أن تقلل من بروزها وإشهارها على الملأ. يشمل ذلك أن تتفادى استخدام اللغة العربية في الحديث في الأماكن العامة، أو التعامل معها مثل قراءة الكتب العربية. لا يعني ذلك أن الحوادث العنصرية باتت متواترةً إلى درجة أنها أصبحت تشكل جزءاً من يوميات حياتنا. شيءٌ ما في هواء العاصمة البريطانية، ووهج تنوعها وأجوائها المفتوحة على الحريات الفردية، بات ملوثاً بسموم موجة الانغلاق على كل ما هو مختلف.
نشرت صحيفة الأندبندنت البريطانية، أخيراً، في مقال توصياتٍ عن تسعة أمورٍ يفضل أن لا تقوم بها إذا كنت مسلماً على متن طائرة، إذ إنها قد تثير ريبة الركاب، أو أفراد الطاقم، وتعتبر مؤشراً قويا إلى شبهة: أن تطلب ماء من المضيف، أن تطلب تغيير المقعد من دون سبب، أن تحمل اسماً مطابقاً لاسم مشبوه، أن تتحدث بالعربية (راكب أثار رعب جاره، بعدما اتصل هاتفياً مع أقرباء في العراق على متن خطوط جوية أميركية)، أن يبدو على شكلك أنك مسلم، أن تحمل أسما مسلما، أن تتعرّق (تم إنزال ثنائي من على متن طائرة، بعدما وجد الطاقم أنهما يتعرّقان ويرددان كلمة "الله اكبر")، أن تقرأ كتاباً (حادث المسافرة البريطانية والكتاب عن سورية)، وأن تجري تمارين حسابية (راكب اشتبه أن جاره الذي كان يجري تمرينا حسابيا يكتب بالعربية، وأنه يحضر لعمل إرهابي).
يأخذ شعار "اذهب إلى بلدك" الشهير الذي بات شعاراً لمرحلة ما بعد التصويت على الاستفتاء الأوروبي، في لغة الاعتداءات على المهاجرين، أشكالاً متنوعة، منها توقيف مارّة للتأكد من أنهم يتقنون الإنكليزية، أو طلب زبائن في مطعم عدم التعامل مع نادل، إذا ما كان أجنبياً، كما باتت الصحافة تنقل بتواتر. أما أن تواجه إمكان التحول إلى مناسبةٍ للشبهة، أو حتى للتحقيق، لمجرد الحديث بلغةٍ ما، أو قراءة كتابٍ ما، فتلك حالةٌ متقدمةٌ على مجرد الحذر، تعني أننا بتنا نمارس، بحكم الضرورة، الرقابة الذاتية على ما نقرأ وما نقول وكيف نفكّر. تلوّث سموم رياح الانغلاق ما تبقى من صورة المدينة المنفتحة على ثقافات أبنائها ولغاتهم، أو وهم الصورة. أن يصبح أمراً عادياً أن تتفادى الحديث بالعربية في المترو، أو أي مكان عام، أو أن تتفادى ما يمكن أن يشير، في شكلك الخارجي، إلى أصلك وفصلك، أو أن يقول لك أحدهم إنه "لا يبدو عليك أنك عربي"، أو لا يبدو من شكلك أنك مسلم" من باب الطمأنة.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.