الرؤى الخلاصية وأوهام نهاية التاريخ

05 يونيو 2016

توهم فوكوياما بإمكانية نهاية التاريخ (Getty)

+ الخط -
يتميز الإنسان بمقدرته على التطور الاجتماعي، أي على إقامة تاريخٍ خاص به، فالإنسان هو الوحيد الذي له هذا النوع من التاريخ، فنحن نتكّلم عن تاريخ هذا الشعب أو هذه الأمة، وغير ذلك من الأشياء المرتبطة بالإنسان، ولا نتكلم عن تاريخ ممالك القطط أو العصافير، فللأخيرة تطور بيولوجي غريزي، لكنها لا تملك تاريخاً اجتماعياً متطوراً. فللنمل والنحل نظام معيشي اجتماعي، لكنه فطري، ولا يتغير مع تطور الزمن الملحوظ تطوره فقط في إطار التغير البيولوجي والوراثي.
هذه الخصوصية للإنسان، مهمة جداً، وهي ملحوظة بشكل واضح، منذ بدأ الإنسان باختراع الكتابة قبل ذلك. نحن نقول ما قبل التاريخ؛ وهذا لم يعن أنه لم يكن هناك تطور اجتماعي في تلك الأزمان البعيدة، لكنها غير مترجمة أو مدوّنة كتابياً، إلا أن الباحثين وجدوا، طبعاً، رسوماً وغير ذلك من الآثار التي تظهر تطور الإنسان الاجتماعي منذ عشرات آلاف السنين. على أن مفهوم التاريخ يؤدي، تلقائياً، إلى مفهوم الحضارة، فهي نتاج الإنسان وسردياته التاريخية، وتترجم تطوره الفكري والمادي، وأدوات عمله ونظامه الاجتماعي واختراعاته، وما إلى ذلك، بما فيه ظهور الأديان. الحضارة، إذن، ليست فقط نتاج فعل الإنسان وتفاعله مع الطبيعة، ولكنها أيضاً فعله بنفسه، وبتحديد علاقات أعضاء مجتمعه فيما بينهم، وبكيفية حل التناقضات الناشئة.
اندفاع التاريخ المستمر إلى الأمام، مرتبط بوجود تناقضاتٍ اجتماعية لا تنتهي؛ حتى بعد حلها، فتناقض المجتمع البدائي المشاعي الأول حل محله تناقض مجتمع العبيد والسادة الأحرار، كما حدث في اليونان القديمة، ثم تناقض الإقطاعية الأرستقراطية والفلاحين، كما حدث في أوروبا القرون الوسطى، وأخيراً التناقض الاجتماعي بين البورجوازية والعمال، في القرنين التاسع عشر والعشرين، وظهور أشكال جديدة في الزمن الحديث، زمن العولمة والإنترنت. لذلك، لا تنتهي التناقضات داخل المجتمع، بل تتجدّد، وحلها في فترة زمنية ما، ومكان ما، لا يعني إنهاء تطورها. تجدّدها بأشكال مختلفة، هو بالتحديد ما يُعرف بالتاريخ، وإلا لانتهى هذا التاريخ منذ زمن.
ذهبت الأديان والإيديولوجيات على اختلافها باتجاه توقف التاريخ ونهايته، وما قاله فوكوياما عن "نهاية التاريخ"، في زمن انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط الفكر الماركسي، لم يكن استثناءً، فالشيوعية نفسها طرحت نهاية التاريخ عن طريق الحل النهائي لتناقض المجتمع، بامتلاك الطبقة العاملة للسلطة ووسائل العمل وإنهاء صراع الطبقات.
يطرح الإسلاميون من جهتهم مفهوم أن كل مشكلات المجتمع يمكن حلها (إن طبق الإسلام الصحيح)، وحملت كل الأيدولوجيات تقريباً المفهوم نفسه لنهاية التاريخ، الذي يتوقف عندما نطبق هذه الأيديولوجية أو تلك، وتُحل كل التناقضات والمشكلات، ويتعايش حينها الذئب مع الغنم بحبٍّ ووئام، كما يحلم المنتظرون لعودة المسيح أو الإمام المُخلص، وكان ذلك قد بدأ مع أفلاطون وجمهوريته المثالية.
ذهب الأصوليون الإسلاميون إلى أبعد من ذلك، فهم يظنون أن التاريخ انتهى عند حقبة بداية الإسلام والخلفاء الراشدين، وأن العودة إلى هذا الزمن هي التي ستنهي التناقضات وحل الإشكالات بشكل أبدي، وهذا هو المبدأ الخاطئ نفسه المبني على عدم فهم التاريخ وتطوره، ما يدفع بشكل غير واعٍ، عن طريق إنهاء هذا التاريخ، نحو مجتمعاتٍ شبيهةٍ بممالك النمل والنحل التي ليس لها أصلاً أي تاريخ، وعلاقاتها الاجتماعية لا تتبدّل مع الزمن.
تطور المجتمعات الإنسانية الدائم نحو تناقضات جديدة، وحلول جديدة، هو إذن المبدأ العام، الذي يجبر الإنسان على الفكر والعمل، والبحث عن حل تناقضاته، أولاً بأول، وليس البحث دوماً عن حلولٍ خلاصيةٍ أبدية، حالياً أو سابقاً أو مستقبلاً، ليس للفكر الإنساني دور بوضعها، بل يقتصر فقط على تفسيرها .
لا فرق، إذن، بين فكر فوكوياما الليبرالي، بعد وهمه بانتصار الليبرالية ونهاية التاريخ، والفكر الشيوعي الماركسي لدى نجاح ثورة أكتوبر في روسيا، وأصوليي الدين الإسلامي الذين أوقفوا عجلة التاريخ عند القرن السابع الميلادي. كلهم واهمون بامتلاكهم أدوات إنهاء التاريخ، ناسين تماماً أن ذلك يُبعدهم عن الحضارات الإنسانية العديدة، ويقرّبهم من عالم جامد متكلس لا يتطور.
دلالات