القوات المسلحة والسلام والأسئلة المشروعة

30 يونيو 2016

طائرات أردنية في أثناء تدريب على مكافحة الإرهاب (10مايو/2016/Getty)

+ الخط -
نستعيد، في هذه الأيام المباركة من شهر رمضان المعظم، ذكرى حرب العاشر من رمضان (السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973)، وهي الجولة العسكرية الرابعة في سلسلة جولات الصراع العربي - الإسرائيلي، والتي جاءت لتكسر حاجز الهزيمة، وليستعيد الإنسان العربي كرامته، ويستأنف نضاله من أجل تحرير كل الأرض، واستعادة كل الحقوق العربية، بعد أن أكد قدرته على مواجهة العدو فى ساحات القتال ومسارح العمليات وهزيمته عسكرياً. ولكن، أرادها بعضهم أن تكون آخر الحروب التي تخوضها الجيوش العربية النظامية ضد العدو الإسرائيلي. وللأسف، تحقّق لهم ما أرادوا، حتى وقتنا هذا على الأقل، على الرغم من أن تلك الحرب التى تحقق فيها أول نصر عسكري عربي على مسرح العمليات لم تحسم الصراع، ولم تحرّر كل الأرض المحتلة، ولم تستعد كل الحق الفلسطيني والعربي.
على الرغم من ذلك، ترسّخت في أذهان الحكام العرب مقولة أن تلك الحرب هي "آخر الحروب"، وسعوا إلى ترسيخها في وجدان الشعوب، بشتى الطرق والأساليب، سواء بشكل مباشر بتوقيع معاهدات واتفاقيات سلام مع العدو الإسرائيلي، وإقامة العلاقات الدبلوماسية الرسمية التي تتيح رفع علمه في قلب عواصم عربية، أو بشكلٍ غير مباشر بإقامة علاقاتٍ غير رسمية على مستوياتٍ أقل، وافتتاح مكاتب تبادل اقتصادي، وثقافي، وإعلامي. والأخطر هو عمليات التغييب الذهني للعقل العربي الجمعي، من خلال وسائل الإعلام الحديثة التي تبث الأفكار المغلوطة حول السلام والتسامح، وأن المخاطر تأتي من مصادر أخرى، غير العدو الإسرائيلي "ذلك الذي تحول في وسائل الإعلام المحسوبة على النظم إلى جار، أو إلى عدو طيب" (!)، بينما العدو الحقيقي أصبح الإرهاب، ذلك الشبح المجهول الهوية، وغير الملموس، والذي تقوم نظم الحكم بتصدير صورته إلى الناس، فيتعاطون تلك الصورة ويعيشونها، بالصوت والصورة، عبر ما تبثه وسائل الإعلام من أفلام، ومشاهد، ولقطات، تصور العدو الجديد، من دون هوية محدّدة له. هو فقط كائن أغبر، أشعث، متشح بالسواد، يرفع راياتٍ سوداء مكتوب عليها عبارة "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، دلالة على انتمائه للإسلام. وهذا، بالطبع، لا ينفي وجود مثل تلك التهديدات الإرهابية. ولكن، في سياقٍ مختلف عن العدو الإسرائيلي.
في ظل ذلك السلام المفترض، أو المفروض عنوة، مع العدو، أو الذي كان عدواً، وتحول إلى جار أو صديق، لدى بعض من بيدهم السلطة، تطفو على السطح أسئلة مشروعة وشديدة الأهمية، تبحث عن إجابات حقيقية، حول الدور المنوط بالجيوش والقوات المسلحة للدول العربية. وخصوصاً أنها تستحوذ على مئات مليارات الدولارات كميزانيات للدفاع، وإنشاء ترسانات الأسلحة الحديثة، والمتطورة، ووضع خيرة شباب الأوطان، تحت السلاح، جبرياً، في خدمة تلك الجيوش.
وهل تحتاج مواجهة ذلك العدو الجديد (الإرهاب) كل تلك الجيوش الجرّارة، وكل تلك الأسلحة
 المتطورة من أساطيل بحرية، وقوات جوية، والقوات البرية المدرعة والميكانيكية، وقوات النخبة الخاصة، وقوات الدفاع الجوي، والصواريخ بأنواعها، وباقي الأسلحة المعاونة، والإدارية، والخدمية؟ جيوش جرارة بمعنى الكلمة، بينما ما تبثه لنا وسائل الإعلام من صور ومشاهد عن ذلك العدو لا تتجاوز ذلك الشخص، الأشعث، الأغبر، كثيف اللحية، المتشح بالسواد، يحمل رشاشاً، ويركب سيارة نصف نقل ذات دفع رباعي، مثبت عليها رشاش.
قبل أن نبحث عن إجاباتٍ لتلك الأسئلة المشروعة، علينا أن ندرك أن القوات المسلحة لأي دولة ليست سلعةً يمكن للدولة أن تشتريها، أو تحصل عليها عند الحاجة إليها. لكنها بناء متكامل، يتم عبر سنوات طويلة، على أسس وقواعد ثابتة، نابعة من قيمٍ وطنيةٍ وأخلاقيةٍ لكل مجتمع، تمثل في مجموعها ما تعرف بالعقيدة العسكرية للجيش، والتي تجعل من الجيش ليس مجرد "آلة قتل" في يد السلطة، توجهها حيثما تشاء. ولكنها تجعل منه آلة دفاعٍ عن الأوطان ضد التهديدات الحقيقية التي تتعرّض لها من عدوٍّ يستهدف أرضها، أو أجواءها، أو مياهها، أو مقدراتها. وهذا ما يُكسب الجيوش مكانتها لدى شعوبها، باعتبارها ملك تلك الشعوب، وجزءاً من نسيجها الوطني.
وإذا كان دور الجيوش في حالات الحروب واضحاً جلياً، تبقى الأسئلة بشأن دور الجيوش في حالات السلم. بالطبع، ليس منطقياً القول إنه لا حاجة لنا للاحتفاظ بتلك الجيوش باهظة التكاليف، لأن الجيوش، كما أشرنا، ليست سلعةً يمكن توفيرها عند الحاجة إليها، وهو ما يُعرّض الوطن لمخاطر غير مأمونة في حالة التهديد المفاجئ من عدو لا أمان له، كما أنه ليس منطقياً الاحتفاظ بجيوش ضخمة شاكية السلاح، تمثل قوةً فائقةً في يد سلطةٍ تستخدمها من دون ضوابط، وهو ما يحولها إلى سلطة قهرية مستبدة.
وقد يتصوّر بعضهم أن الحل يكمن في تحويل الجيوش الكبيرة ذات الإمكانات الهائلة في وقت السلم "الحقيقي أو المفترض" إلى قوة إنتاجية واقتصادية وجهاز للبناء والتعمير، قادر على الإنجاز السريع والمنضبط، إلى جانب بعض المهام الأمنية تحت شعار الحرب على الإرهاب. وهنا مكمن الخطر الحقيقي، لأننا نكون قد حصلنا على مؤسسةٍ اقتصاديةٍ وإنتاجيةٍ جيدة للغاية. وقد نكون أيضاً قد دعمنا الأمن الداخلي ورفعنا من كفاءته. ولكننا، وهو الأخطر، نكون قد فقدنا مؤسسةً عسكريةً ذات قيم وتقاليد عريقة وراسخة، وخبرات قتالية وعسكرية متراكمة، تكونت على مدى عشرات بل ومئات السنين، ولا يمكن استعادتها فوراً عند تعرّض البلاد لخطر تهديد عسكري حقيقي.
يبقى السؤال أو الأسئلة المشروعة حول القوات المسلحة، ودورها ومكانها ومكانتها، في غير أوقات الحروب الحقيقية، وحتى لا نحمّل القوات المسلحة ما لا تحتمل من تأويلات، لا بد من إدراك أنها ليست كائناً طبيعياً، يمكن تصنيفه أو محاسبته على ما يقع منه من أفعال. ولكن القوات المسلحة كيان معنوي افتراضي، يضم مكوناتٍ عديدةً من البشر والأسلحة والمعدّات وآليات التشغيل والإدارة والتحكم، خصوصاً الجيوش التي تعتمد في تكوينها الرئيسي على الخدمة العسكرية الجبرية، أو التجنيد الإجباري، أي أن الجيوش كيانات ضخمة تحكمها نظم قيادة وسيطرة معقدة للغاية. والخطر الحقيقي على الشعوب أن تتحوّل تلك الآلة العسكرية الجبارة إلى أداة في يد من يملك السلطة، من دون ضوابط صارمة لاستخدامها، فيتصور أنه يملك صولجان الحكم، وقوة القهر التي تجعل منه الحاكم المطلق صاحب الحق الإلهي. وهنا، لا يجب إلقاء اللوم على الجيش كما يحلو لبعضهم، هروباً من مواجهة الحقيقة، وهي أن اللوم يجب أن يقع على من بيده سلطة استخدام الجيش.
ولأن العالم أدرك خطورة تلك القضية، بل وعانت منها الشعوب كثيراً، ظهرت ما تعرف بدراسات "العلاقات المدنية - العسكرية" (CMR)، والتي تعني بوضع القواعد والأسس لحجم القوات المسلحة للدولة وتكوينها وتنظيمها وتسليحها، طبقا لاحتياجاتها، والأهم لدور القوات المسلحة ومكانها ومكانتها في المجتمع، والضوابط الصارمة لاستخدامها، عبر آلياتٍ تجعل من غير الممكن استخدامها في غير مهام الدفاع، وحماية الوطن ومقدراته. وتواكب نتائج تلك الدراسات التي تقوم بها مراكز متخصصة رفيعة المستوى ما يحدث من تطور هائل في النظم العسكرية، تفرضه ثورة المعلومات والاتصالات، وانعكاسات ذلك على العلاقات المدنية - العسكرية تكون عادة محل احترام من المؤسسات السياسية المختلفة، وهو ما نفتقده في عالمنا العربي بشدة.
بغير ذلك، لن يمكننا الإجابة على تلك الأسئلة المشروعة بشأن القوات المسلحة ودورها، وسنظل نعاني من تحويل جيوشنا الوطنية، من آلة دفاع وحماية للوطن وردعٍ لأعدائه إلى آلة قتل وبطش في يد سلطات غاشمة، ونظم قهرية.
2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.