نكبتنا من الفالوجة إلى الفلوجة
في فالوجة فلسطين، قبل 68 عاماً، كانت العروبة، أرضاً وشعباً، تحت حصار العصابات الصهيونية، المدجّجة بالأسطورة الدينية والحلم الاستعماري العتيق، فيما كان عرب آخرون بين متواطئ بالصمت والعجز وتغييب الكفاءة ومتورطٍ في المشروع الجديد لتقسيم الأراضي العربية.
من "عراق المنشية" في فالوجة فلسطين إلى "عراق الفلوجة"، تتشابه الأحداث والمواقف والوجوه، وإن اختلف الفاعل الرئيسي، غير أن الممارسات تكاد تتطابق، فما فعلته عصابات المستعمرين الصهاينة بأصحاب الأرض والحق، العرب الفلسطينيين، في العام 1948، لا يختلف كثيراً عما تقوم به مليشيات الحشد الطائفي "الشيعية"، في أهل المدينة الصامدة الباسلة، العرب العراقيين، فالدافع في الحالتين واحد، وكذلك، وبالضرورة، المنهج واحد: استئصال السكان الأصليين، وتغيير الطبيعة الديموغرافية للمكان، والعبث بالتاريخ والجغرافيا، معاً.
في نكبة فالوجة فلسطين 1948، أعلن ديفيد بن غوريون قيام (دولة إسرائيل) على شطر من أرض فلسطين العربية، وشكّل حكومةً مؤقتة لها. وسارعت الولايات المتحدة الأميركية إلى الاعتراف بها، وتلاها الاتحاد السوفييتي، ثم توالت بقية الاعترافات من الدول الأخرى المؤيدة للصهيونية، فيما كان العرب يتظاهرون أمام شعوبهم بالتصدّي لقرار تقسيم فلسطين، ويسيّرون الجيوش للقتال، ويمدّون المقاومين بالسلاح، حتى انتهى الأمر بجمال عبد الناصر واقعاً في أسر العصابات الصهيونية.
هذه المرة، يقف قاسم سليماني، قائد الحرس الفارسي، ليستعرض غطرسته على حدود المدينة العراقية، ويتفقد جنود الطائفة والعرق، ويشحذ طاقات الإبادة والمحو، حتى آخر عربي مقاوم في مدينة المساجد، بينما لا عرب يجرؤون على التظاهر أمام شعوبهم بالعمل على التصدّي للهجمة الطائفية المدعومة إيرانياً، لابتلاع عروبة الفلوجة العراقية.
سيقولون لك إنهم هنا لمحاربة "داعش"، فاعلم أنهم كاذبون، وأنهم و"داعش" حليفان وشريكان، يتقاسمان لحمنا العربي، برعاية أميركية، وتواطؤ أممي.. هم هنا للانتقام من تلك المدينة التي استعصت على الغزاة العابرين إلى شرفنا العربي المستباح من البوابة الإيرانية، الفارسية.. هنا طهران، وهنا واشنطن وتل أبيب، لتأديب المدينة التي بقيت ترفع أعلام العراق العربي القديم، لا العراق الشرق أوسطي الجديد، وتعلق صور صدام حسين، المطلوب رأسه إيرانياً وإسرائيلياً وأميركياً. هم هنا لأن إيران لم تشبع بعد من دم العراقيين العرب انتقاماً لهزيمتها في الحرب التي توقفت عام 1989، وإسرائيل هنا لأنها تريد الاطمئنان على استقرار العراق الأميركي الإيراني الجديد الذي لا يفكر في فلسطين، ولا يكرّر خطيئة التفكير في امتلاك قدرةٍ عسكريةٍ نووية، أو يمتلك صواريخ يمكنها الوصول إلى العمق الإسرائيلي.. وواشنطن، هنا، لإخضاع المدينة العنيدة التي استعصت على الغزو.
"داعش" هنا هي الشجرة التي تخفي وراءها الغابة الكثيفة، أو الغاية الأهم، وهي الإجهاز على آخر ما تبقى نابضاً بمقاومة المشروع الإيراني، في العراق، بتكرارٍ سخيفٍ ومملٍّ للعبة الوضيعة التي تدور فصولها في سورية. وفي الحالين، هم الذين زرعوا شجرة "داعش" ورعوها ورووها، حتى ارتفعت وتغوّلت، وبدت، في عيون المخدوعين، هدفاً ثميناً للحطابين والصيادين، لكن الواقع يقول إنها ليست أكثر من أداة للصيد ووسيلة للقنص، والانقضاض على الهدف المطلوب.
الفلوجة تعاقب، كما عوقبت غزة وحلب وسيناء وكل بقعة أرضٍ عربيةٍ تسببت في إزعاجٍ لمعسكر الانتقام، ذات يوم.