11 نوفمبر 2024
"سجون" مفلح العدوان
شخصياتٌ لا أسماء لها، في فضاءٍ يوحي بالاختناق، تتحرّك وتتحاور وسط قضبانٍ تحيل إلى احتجاز الروح والبدن، وتُناوشهم شمسٌ بعيدة وأخرى قريبة وغالباً غائبة، في نصٍّ ينهض على الإيحاء والترميز وظلال المعاني، من نحو 25 صفحة، لا تبدو فيه اللغة وسيلةً لتعبير هذه الشخصيات المتشابهة عن نفسها فقط، وإنما أيضاً أنفاساً تفيض بأشواقهم إلى إيقاعٍ آخر للحياة... هذا هو المبنى العام لمسرحية "سجون"، للكاتب الأردني مفلح العدوان، وقد أنجزها على الخشبة المخرج القطري، محمد البلم، وأعد السينوغرافيا والديكور عبدالله الكواري، (إنتاج فرقة الغد لفنون الدراما)، وأداء يوسف خليل وفهد المري وعبدالله الهيل ونتاشا صوقار وزملائهم. وقد شوهدت ضمن عروض مهرجان الدوحة المسرحي في دورته الثالثة والثلاثين. ولمّا كان أيُّ عرضٍ مسرحي يُحسب للمخرج، فإن "سجون" كذلك أيضاً، وقد أجاد البلم في توظيف طاقات الشبان الممثلين، وفي إيصال المغزى العام الذي يشتمل عليه النص، غير أنه في الوسع أن يُقال إن البعد الفلسفي الذي يُسائل فكرة وجود الإنسان في عيشِه، وهو البعد الأوضح في العمل، يجعل الانتباه إلى النصّ أمراً شديد الأهمية، ومركزياً في محاورة هذه المسرحية، صنيعاً مكتوباً ثم صنيعاً بصرياً مشهدياً على الركح (بلغة أصدقائنا المغاربيين).
ليس المسرح وحده الجنس الإبداعي الذي عُرف به مفلح العدوان، فللكاتب حضوره روائياً وقاصاً وراويةً لذاكرة المكان، ويكاد يصدُق عليه وصف أصدقائه له إنه "صائد الجوائز"، فقد نال خمس جوائز، أردنية وعربية، في هذه الأنواع، كان جديدها، أخيراً، عن مسرحيته "مرثية الوتر الخامس"، جائزة المركز الأول في المسابقة الدولية لنصوص المونودراما باللغة العربية، والتي تنظمها هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام بالتعاون مع الهيئة الدولية للمسرح. وفيما يعتني هذا العمل بالفن، والموسيقى خصوصاً، فعلاً مضاداً لأعداء الحياة من أهل العنف والتطرّف، باستيحاء شخصية الموسيقي زرياب، فإن "سجون" أيضاً تنشغل بمسألة الحرية، قضيةً مركزيةً، ليس انعتاقاً من سجنٍ محسوس بقضبانٍ معلومة، وإنما من مواضعاتٍ بلا عددٍ تُنشئها قيود الحياة، على تنوّع مستوياتها، في الزواج والشارع والعمل، بل طوال مسار الإنسان، منذ سجن (الرحم) إلى حاله مأسوراً أمام شاشات الهواتف والحواسيب.
ثمّة رمزيّة ظاهرة في المسرحية، وقع مشاهدو عمل محمد البلم على ظلالها، في تعبيرات الممثلين، وهم ينطقون بما في جوارح الشخصيات التي يؤدّونها، وهي شخصيات ترتدي ملابس متشابهة، وفي أعمار متشابهة، وكذلك في انتقالات العمل من مشهد إلى آخر، من محاورات الراوي الذي يروي عن سجنه شخصياتِه إلى محاكمة بعضها، وكذا الراوي نفسه، في تأدية أدوار قاضٍ ومتهمين. وقد ساعدت اللغة العاليةُ في النص، المتّصفة بسمتٍ أدبيٍّ ملحوظ، في شحن الإيقاع العام لهذه المشاهد المتتابعة بروحيّة المُراد المركزي في العمل المسرحي، وهو حاجة الإنسان إلى الخروج عن الرتابة والنمطية والأحادية، وإلى البهجة بالتعدّد والاختلاف والتنوّع والنور، أي بالحياة حين لا نكون فيها منساقين إلى شروطها بتلقائيةٍ تحدّ من انطلاقة الإنسان إلى آفاقِ إبداعٍ غنيٍّ بالاحتمالات التي تكسر كل ثبات. وكان بالغ الإتقان المشهد الذي أظهر أبطال العمل كأنهم أشياء، أو أرقام، أو أدوات، في تعاملهم مع وسائط المعلوماتية والاتصال والتواصل، ومنها الحواسيب والهواتف النقالة. وهو مشهد اتّسق مع تظهير الجفاف الروحي الناشئ في حياة السجن المتعدّد التفاصيل الذي يقيم فيه الإنسان، وكما في غيره من مشاهد، بدا أن للغة بطولةً ما في العمل، ولذلك لم يغال الفنان، علي عليان، في الندوة التطبيقية عن "سجون"، في تأشيره إلى "سحر اللغة" في نصوص مفلح العدوان. وجاء من أوتاد النص (هل تجوز التسمية؟) أن كاتبه ضمّن فيه مقاطع من قصائد لأمل دنقل ومحمود درويش ومظفر النواب، ولا سيما في انتقالات المَشاهد، ما قد يكون دالاً على وفاءٍ للغةٍ صافيةٍ لدى مفلح العدوان، وهو يكتب هجاءً فلسفياً (ذهنياً؟) لحال الإنسان المعاصر سجيناً بين قضبانٍ بلا عدد. ... .
ليس المسرح وحده الجنس الإبداعي الذي عُرف به مفلح العدوان، فللكاتب حضوره روائياً وقاصاً وراويةً لذاكرة المكان، ويكاد يصدُق عليه وصف أصدقائه له إنه "صائد الجوائز"، فقد نال خمس جوائز، أردنية وعربية، في هذه الأنواع، كان جديدها، أخيراً، عن مسرحيته "مرثية الوتر الخامس"، جائزة المركز الأول في المسابقة الدولية لنصوص المونودراما باللغة العربية، والتي تنظمها هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام بالتعاون مع الهيئة الدولية للمسرح. وفيما يعتني هذا العمل بالفن، والموسيقى خصوصاً، فعلاً مضاداً لأعداء الحياة من أهل العنف والتطرّف، باستيحاء شخصية الموسيقي زرياب، فإن "سجون" أيضاً تنشغل بمسألة الحرية، قضيةً مركزيةً، ليس انعتاقاً من سجنٍ محسوس بقضبانٍ معلومة، وإنما من مواضعاتٍ بلا عددٍ تُنشئها قيود الحياة، على تنوّع مستوياتها، في الزواج والشارع والعمل، بل طوال مسار الإنسان، منذ سجن (الرحم) إلى حاله مأسوراً أمام شاشات الهواتف والحواسيب.
ثمّة رمزيّة ظاهرة في المسرحية، وقع مشاهدو عمل محمد البلم على ظلالها، في تعبيرات الممثلين، وهم ينطقون بما في جوارح الشخصيات التي يؤدّونها، وهي شخصيات ترتدي ملابس متشابهة، وفي أعمار متشابهة، وكذلك في انتقالات العمل من مشهد إلى آخر، من محاورات الراوي الذي يروي عن سجنه شخصياتِه إلى محاكمة بعضها، وكذا الراوي نفسه، في تأدية أدوار قاضٍ ومتهمين. وقد ساعدت اللغة العاليةُ في النص، المتّصفة بسمتٍ أدبيٍّ ملحوظ، في شحن الإيقاع العام لهذه المشاهد المتتابعة بروحيّة المُراد المركزي في العمل المسرحي، وهو حاجة الإنسان إلى الخروج عن الرتابة والنمطية والأحادية، وإلى البهجة بالتعدّد والاختلاف والتنوّع والنور، أي بالحياة حين لا نكون فيها منساقين إلى شروطها بتلقائيةٍ تحدّ من انطلاقة الإنسان إلى آفاقِ إبداعٍ غنيٍّ بالاحتمالات التي تكسر كل ثبات. وكان بالغ الإتقان المشهد الذي أظهر أبطال العمل كأنهم أشياء، أو أرقام، أو أدوات، في تعاملهم مع وسائط المعلوماتية والاتصال والتواصل، ومنها الحواسيب والهواتف النقالة. وهو مشهد اتّسق مع تظهير الجفاف الروحي الناشئ في حياة السجن المتعدّد التفاصيل الذي يقيم فيه الإنسان، وكما في غيره من مشاهد، بدا أن للغة بطولةً ما في العمل، ولذلك لم يغال الفنان، علي عليان، في الندوة التطبيقية عن "سجون"، في تأشيره إلى "سحر اللغة" في نصوص مفلح العدوان. وجاء من أوتاد النص (هل تجوز التسمية؟) أن كاتبه ضمّن فيه مقاطع من قصائد لأمل دنقل ومحمود درويش ومظفر النواب، ولا سيما في انتقالات المَشاهد، ما قد يكون دالاً على وفاءٍ للغةٍ صافيةٍ لدى مفلح العدوان، وهو يكتب هجاءً فلسفياً (ذهنياً؟) لحال الإنسان المعاصر سجيناً بين قضبانٍ بلا عدد. ... .