الاستشراق الحقوقي: فيلم "السعودية مكشوفة"

31 مارس 2016

مشاهد من الفيلم (تصميم: العربي الجديد)

+ الخط -
هناك فرق كبير بين العمل الصحافي من أجل "الفـُرجة"، والعمل الصحافي من أجل حقوق الإنسان، فرق بحجم المفقود من "السعودية" في فيلم Saudi Arabia Uncovered (السعودية مكشوفة) للمنتج والمخرج البريطاني جيمس جونز، وإنتاج صندوق فرونت لاين للصحافة.
ربما بدأ الفيلم مشروعاً مُبكّراً على الورق بنيّات حَسَنة، على أساس أن يكون معالجةً لملفّ حقوق الإنسان في السعودية. لكن ما انتهى إليه هو قطعة مبتذلة من الفـُرجة الإكزوتيكية الموجّهة لإشباع رغبة المشاهد الأوروبي في التلّصص والاستثارة والرعب في مواجهة هذا المجتمع الشرقي المتوحّش، كما لدغدغة مشاعر التفوّق الإنساني الكُلّي عند هذا المشاهد. ربما لهذا السبب، بدا المخرج جونز حفيّاً بتغريدات الإطراء والمديح من مشاهدين أوروبيين وأميركيين، يستخدمون جميعاً لوصف محتوى الفيلم الكلمات نفسها: الصدمة، الرعب، الوحشية. أما محرّر صحيفة لوس أنجلوس تايمز فقد حيّا الفيلم بقطعةٍ صحافية فريدة: إنها معركة بين الماضي والحاضر. بين أغلبيةٍ سُنيةٍ وأقليةٍ شيعية. تعرّفوا على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تمنع النساء من وضع أحمر الشفاه (!) ثم يضيف، في فقرةٍ خاصة، كأنما يُعلن طبق الحلوى للسهرة أو الهدية المجانية بالداخل: "بالإضافة إلى مشاهد الإعدامات العلنية"(!). فتح الملفات الحقوقية بطريقة متماسكة وجادّة تستفزّ عادة البروباغاندا الحكومية للردّ والتفنيد. لكن فتح الملفات الحقوقية بغرض توفير فُرجة غرائبية لمشاهد أوروبي، يستفزّ، قبل أيّ أحد، الناشطين الحقوقيين الذين يعملون من أجل التقدم في هذه الملفات، لأنه من الـمُحبط لناشطٍ يتعامل مع واقعٍ معقدٍ من الفُرَص والإمكانات والتهديدات، أن يشهد تحويل نضاله ضمن هذه الشروط إلى سرديةٍ سطحيةٍ أو خياليةٍ تصل، في مواضع، إلى الكذب الصريح. ومن أجل ماذا؟ من أجل تطويع الوقائع لإشباع رغبات المخيال الإكزوتيكي للمخرج والمشاهدين.
ولهذا يستحقّ الفيلم مكافأة جهوده بنحت تعبيرٍ خاص في وصف محتواه، تعبيراً الاستشراق الحقوقي، إذ يملك صانعو الفيلم سرديةً مُسبقةً جاهزةً ومحمولةً على الذريعة الحقوقية، ومطلوب من الشخصية السعودية، من المرأة ومن الرجل ومن الطفل، أن يؤدّوا أدوارهم النمطية في هذه السردية المشغولة بالغرائبي أكثر من انشغالها بالحقوقي. لهذا، يحرص الفيلم، منذ البداية، على إدخال المشاهد، الأوروبي والأميركي، الذي لا يحمل اهتماماً ثابتاً، ولا اطلاعاً حقيقياً حول السعودية، إلى البلاد عبر نافذة "الكاميرات السرية" و"التصوير الممنوع"، مستحثاً رغبته في التلصص واختراق المحظور، ومُدغدغاً شعوره الوهمي بالسّرية والحصرية، وهذا ممكن فقط لأن المشاهد الغربي لا يدرك أن هذا الرجل "البدائي" ذا الثوب، وهذه المرأة التي تلبس البرقع، يستخدمان التقنية التي يستخدمها هو، ولا يملك فكرةً عن مبيعات الهواتف الذكية في السعودية، ولا حجم الإدمان الاجتماعي المتصاعد على استعمال التقنية لأغراض البثّ المباشر والنشر وتصوير كل ما يمكن تصويره، وفي أي مكان خاص أو عام، ممنوع أو مسموح، ولأي شخصيةٍ أو موقف، خصوصاً للشخصيات والمواقف والوثائق الممنوع تصويرها. كما يتحاشي صانعو الفيلم الإشارة إلى حقيقة أن أهم المشاهد "الصادمة" في الفيلم تم تصويرها ونشرها ومناقشتها بواسطة أفراد هذا المجتمع، قبل أن تقوم "الكاميرات السرية" الآتية من بريطانيا بمحاولاتها الواهنة ومحدودة القيمة، في التصوير.
عندما ينتقل الفيلم إلى موضوع حقوق المرأة في السعودية، يدلف إلى موضوع استشراقيّ
تقليدي، هو اضطهاد المرأة في المجتمع الشرقي. وهنا، يبلغ الفيلم ذروة الإثارة الإكزوتيكية. في هذا الجزء، يختار صانعو الفيلم عرض مشاهد متلاحقة لحوادث اعتداء على النساء في الأماكن العامة، ليوحي الفيلم، من دون أن يُصرّح، أن هذه هي طبيعة الحياة اليومية للمرأة في السعودية، وأن أيّ سعوديةٍ تخشى الخروج من منزلها، لأنها معرّضة دائماً للدفع والضرب والسحل من أي رجلٍ تصادفه في الطرقات. يتحاشى صانعو الفيلم الإشارة إلى أنهم لم يلتقطوا هذه الصور في أثناء تجوالهم في الشوارع السعودية، بل حصلوا عليها من الإنترنت، كما يتحاشون الإشارة إلى سياق كل لقطةٍ من هذه اللقطات، وحجم الغضب الاجتماعي الذي أثارته، والعقوبات التي أوقعتها السلطة على كُل مُعتدٍ في كل حالة. ثم يصل الفيلم إلى حدود الكذب الصريح، وهو يشير إلى أن "المرأة السعودية لا يمكنها الذهاب إلى الطبيب بلا محرم".
لماذا يختار الفيلم هذا الخطاب البصري واللغوي الفاقع؟ لأنه مهتمّ باضطهاد النساء في السعودية مادّة للفُرجة في الفيلم أكثر بكثير من اهتمامه بما تواجهه النساء فعلاً. ما تعيشه النساء، في الواقع، من تمييز عميقٍ يحتاج إلى بحثٍ متعمّق في البنى التشريعية والبيروقراطية والخطط التنموية والنموذج الاقتصادي، لكن هذا عملٌ جادّ، وصانعو الفيلم غير جادّين في اهتمامهم بملفّ المرأة إلى هذه الدرجة، فاهتمامهم بالسعوديات لا يزيد عن استعمالهن ديكوراً غرائبياً في إخراج المشهد الوحشي. وعندما لا يتوفر مشهد النساء في الحياة العامة على الغرائبية الصادمة بطبيعته، فإن صانعي الفيلم على استعدادٍ لابتكار ما يلزم من الإثارة البصرية.
عند مقاربة ملفّ معتقلي الرأي، يختار صانعو الفيلم اختزاله في نموذجين، هما رائف بدوي وعلي النمر، لأن هذين النموذجين بالذات يلبّيان سرديته المصممة مُسبقاً حول "الوهابية" ديناً حاكماً (الفيلم يصف الوهابية بـ"الدين")، ففي هذه السردية، الدين يحكم، بينما تنحصر طموحات الإصلاح والتطّلع إلى الحرية في النموذج الليبرالي لرائف بدوي، ونموذج الأقليات المذهبية ممثلاً في علي النمر. يتجاهل الفيلم الحراك الحاصل في المجالين، السياسي والديني، في العقدين الماضيين. ببساطةٍ، لأن هذا الحراك المعقّد لا يتّفق مع سرديته التبسيطية، ولأن المعايير والخطابات المحلية حول الإصلاح لا تتواءم وتصورات صانعي الفيلم ومعاييرهم عن الإصلاح في السعودية، فيقرّرون تنحية الوقائع، وانتقاء ما يتّفق مع تصوراتهم المسبقة، مع التركيز مجدداً على غرائبية مشاهد الجَلْد والقصاص بلا أدنى اهتمام أو اطلاع على مشكلات القضاء والعدالة، آخذين الفيلم إلى ذروة الابتذال مع مشهد السيد جونز، وهو يذهب في الرياض إلى ساحة الصفاة الخالية، ويقف في منتصفها، ليقول "رجل غربيّ في منتصف ساحة القصاص!".
يا للمشهد المثير للقشعريرة بالنسبة لجمهور الإكزوتيك في أوروبا. لكنه مشهد تافه، عديم القيمة بالنسبة لمشاهد سعودي، بالإصلاح القضائي والحقوق المدنية خصوصاً، مشهد خاوٍ من الدلالة، إلا دلالاته الاستشراقية. أما عندما يقترب الفيلم من الأطفال في السعودية، فإنه لا يقارب حقوق الطفل مطلقاً، وإنما يعتني بتقديمه مشروعاً مبكّراً لإرهابيٍّ لم يكتمل إعداده بعد: الأطفال في الفيلم يدرسون النصوص المحرّضة على الإرهاب في المدرسة وفي الجامع، ويعيشون بين وقائع القصاص في الساحات وسحل النساء، روتيناً يومياً في الشوارع. إنهم متوحّشون صغار قادمون للانضمام إلى داعش، وتدمير "العالم المتحضّر" في سنواتٍ قليلة.
مشكلة هذا الفيلم أبعد من استشعار الإهانة للملفّ الحقوقي في السعودية، وللحقوقيين الذين يضحّون بالكثير من أجل أبسط تقدّم فيه، على الرغم من أنه من المهين للغاية أن ينتهي اهتمام صانعي الفيلم بالملفّ الحقوقي إلى استعماله مادةً يصنعون منها فُرجة غرائبيةً لمشاهد أجنبيّ. المشكلة الأبعد هي قدرة مثل هذه الأعمال التي تتسم بالخفة والسطحية والانتهازية، على إيقاع أذىً حقيقي بالملفّ الحقوقي، يتمثل في تسويق تصوراتٍ مشوّهةٍ بشدة لما يريده الحقوقيون السعوديون، وطبيعة الإصلاح الذي يتطلعون إليه، ثم تحويل الملف الحقوقي من خطابٍ دقيقٍ يعالج مسائل معقدة، ويجمع بين المعرفة النظرية والخبرة العملية والوقائع، إلى خطابٍ سطحيٍّ يتكون من مجموعة من الصور التي يسهل دحضها بمقابلتها بمجموعةٍ أخرى من الصور (مقابل كل صورة إساءة وعنف تجاه امرأة يمكن تأكيد تمكين النساء بنشر صورهن في مجلس الشورى والمجلس البلدي)، بحيث يظل كل ما لا يمكن "تصويره" عميقاً ومعقداً وبعيداً جداً عن التناول. هذا العمل "الصحافي- الحقوقي" يؤذي الحقوقيين معنوياً، ويُحبط الرغبة في العمل من أجل الإصلاح، لأنه من أجل استيفاء الصورة الـمُشتهاة للقمع المطبق، يعمد إلى طمس كل الفرص والممكنات الكامنة في الواقع المعاش، وتجاهل أساليب الحركة والمراوغة التي تمارسها النساء والرجال بالفعل، وتنجح في القفز على محظوراتٍ كثيرة، سواء كانت عزف العود أو التجول في المولات أو التعبير بحرية عن الذات. أما أكثر أوجه الإيذاء صراحةً، وأسرعها ظهوراً، فهي قدرة مثل هذا العمل على تعريض الحقوقيين شخصياً للأذى المباشر، كما هو الحال مع "لجين الهذلول" التي أصدرت بياناً تنتقد فيه محتوى الفيلم، وتؤكد أن صانعي الفيلم الذين أجروا مقابلةً معها ظهرت أجزاء منها في الفيلم، لم يخبروها بعدم حصولهم على تصريح للعمل الصحافي داخل البلاد. لكن، ماذا فعل السيد جونز، منتج الفيلم "الحقوقي" ومخرجه؟ لم يعبأ بنشر بيان الهذلول، لكنه كان حريصاً جداً على التغريد بخصوص تعرّضها لتهديدات مروّعة، والاستعراض بحقيقة أن "الناشطة السعودية التي ظهرت في فيلمه" معرّضة للقتل. إنه أمرٌ يليق أخلاقياً بالفعل بصانعي تلك القطعة من الاستشراق الحقوقي.
@Emanmag

avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع