لا أحد يشبه أمي

23 مارس 2016

"الأم ويسلر" للأميركي جيمس ويسلر (Getty)

+ الخط -

 أريد أن أذهب إلى الجنة حيث أمي، على الرغم من أنني طالما تمنيت أن ألتقي لاعبي المفضل، كريستيانو رينالدو، وبحت لها بأمنيتي البعيدة، وضحكت، لأنها كانت تعتقد أنها أمنية بعيدة، وها أنتم تحملونني إليه في هذه البلاد الجميلة التي لا أعرف اسمها، وتزرعون حولي بسماتكم وأمنياتكم، ولكني أبحث عن وجهها بين كل الوجوه، فلا أرى ابتسامتها، ولا حنو نظرتها. كانت ستشاركني فرحتي، وأنا أحظى بكرة قدم وقميص يحملان تواقيع فريقي المفضل. أنتم تفعلون أشياء كثيرة من أجل إسعادي، لكنها الوحيدة التي كانت تفعل الكثير لتسعدني، وهي الوحيدة التي تستطيع أن تمسح دمعتي التي كانت تحرق قلبها، قبل أن تنزل من عينيّ. لا أحد يشبه أمي ريهام دوابشة.

 لا أحد يشبه أمي، حين كانت تربط لي حزام مريولي من الخلف، وتطبع قبلة على خدي، يقع نصفها على أذني، لأنها تقف ورائي دائماً وتشجعني، وتعقص لي شعري، فلا ينفلت حين أتقافز في المدرسة بين زميلاتي، ونلعب ونلهو. تفعل ذلك نساء كثيرات من العائلة، بعد استشهاد أمي، وكلهن أكدن لي أنهن سيكنّ في مقامها. ولكن، لا واحدة منهن تحكم ربط حزام مريولي مثلها، فينفلت بمجرد خروجي من البيت، ولا واحدة منهن تربط الضفيرة بإحكام، وتزينها بشريط أبيض. والأهم أنه لا قبلة يقع نصفها على أذني، فلذلك أذهب إلى قبرها كل يوم، بعد عودتي من المدرسة، لأشكو لها، ولا ترد، فأحل الواجب، وأسألها إن كان صواباً أو خطأً فلا ترد، أردد لها مراراً: لا أحد يشبهك، وأبكي ...

بعد استشهادها، هي وأبي واثنين من إخوتي، في العدوان البغيض على غزة، قاومت كثيراً لكي أستمر في دراستي، وتخرجت قبل شهور في التخصص الذي اخترته معها. تلقيت التهاني ممن حولي، لكن فرحتها كانت تنقصني، ولا تشعرني بلذة النجاح، دموعها ودعواتها وصلواتها هي سبب توفيقي. أغمض عيني كل لحظة، وأتذكّر كل ما فعلته من أجلي، على الرغم من ضعف مواردنا. أنظر إلى حذائها المهترئ الذي انتعلته سنواتٍ، لكي توفر لي طلباتي، وأبكي.

لأني كنت على ثقةٍ أن لا امرأة تشبهها، تأخرتُ في الزواج، وحين رحلت، وكنتُ قد تجاوزت الأربعين من عمري، شعرتُ بفداحة خسارتي، فالبيت أصبح خالياً من كل الحياة التي كانت تبثها في أركانه، والذي كنت أخشى ألا تقدر امرأة غيرها أن توجِدها، فلكل ركن حكاية معها، يحتفظ بها، وقرّرت أن أبقي بالحكايات مكانها، وألا تأتي امرأة غريبة عني، لكي تطمر هذه الحكايات، فلا تلوموني، إن لم تدخل امرأة غيرها بيتي.

قال له: ستكون زوجتي الجديدة مثل أمك المتوفاة. صدّق ببراءة طفولته، لكنه حين أذنب ذنباً، هدّدته بأنها لن تطعمه، وفعلت، وحين عاد أبوه من الخارج، قال له: لا أحد مثل أمي، فأمي عندما كنت أخطئ، كانت تهدّدني بحرماني من الطعام والألعاب، لكنها لم تكن تفي بوعدها، وتغرف لي الطعام من القدر، قبل أن تطفئ النار تحته وتطعمني، وتلاعبني وتلاطفني.

 قالت لي: سأكون مثل أمك. لكنها حين زارتني، أول مرة، أهدتني هدية بخسة، حقيرة القيمة، على الرغم من ثرائها، فبيتها يعج بالخزانات المكدسة بالهدايا والتحف والأنتيكات. هي تعيش وحيدة بلا أولاد، ويوم وفاة أمي، ذكّرتني أنها مارست أمومتها التي حرمت منها بسبب عقمها معي، وأنني لن أفقد أمي بوجودها، لكني لم أصدّق، فأمي كانت تخصني بأثمن الأشياء التي تُهدى لها، وتُؤثرني بكل غالٍ ونفيس، وتمنحني كل ما يرسله إليها إخوتها من دول الخليج حيث يعملون، من قطع قماشٍ فاخرةٍ، وأغطية رأس مزركشةٍ، تعتبر غريبة وعزيزة في غزة.

حين ترحل الأمهات، سنكون على ثقةٍ، نحن الأبناء، أن أحداً لن يشبههن، أننا سنفتقد كل الحياة التي كانت بحياتهن، أن السماء التي كانت تكرمنا من أجلهن توقفت عن ذلك، أننا نكبر فجأة، حين يصبحن تحت التراب.

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.