هل الانسحاب الروسي إعادة تنظيم؟

18 مارس 2016
+ الخط -
كما كان التدخل الروسي في سورية مفاجئاً، جاء الانسحاب مفاجئاً أيضاً، وقد يبدو الأمر، وإنْ كان صعباً تصديقه، التزاماً بالوعد الروسي بإنهاء الأزمة، مع نهاية عام 2015، فالتصريح الروسي الرسمي هو أن مهمة القوات الروسية في سورية حققت أهدافها وانتهت. ولكن، لا يبدو ذلك تحقّق بالمعايير التي وضعتها روسيا لأهدافها من التدخل، لم يحدث سوى رفع قدرة النظام السياسي في سورية على الصمود والتوازن مع المعارضة. ربما يمهد الانسحاب لمفاوضاتٍ جديةٍ وجوهريةٍ، تتفق فيها أطراف الصراع على تسويةٍ مقبولة، فالانسحاب الروسي سيجعل النظام السياسي السوري أكثر واقعيةً وتقبلاً للتسوية، .. ولكن، هل ستتمكّن الأطراف المتصارعة من نسيان الدماء الغزيرة التي سالت؟ هل ستكون قادرةً على التعايش والعمل المشترك؟ يبدو الأمر صعباً، لكنه أقل صعوبةً من انتصار أحد انتصاراً حاسماً.
وبالنسبة لروسيا، التفسير البديهي هو عجزها عن مواصلة تمويل تدخلها العسكري، في ظل انخفاض أسعار النفط والأزمة الاقتصادية التي تلقي بظلها الثقيل على روسيا، وفقدان العمليات العسكرية التأييد الشعبي، .. كما أن التدخل يتناقض، ابتداءً، مع الاتجاهات الجيوسياسية الروسية الجديدة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والتحدّيات الجديدة الناشئة بجوار روسيا، مثل أوكرانيا والقرم، والجمهوريات المجاورة المتململة من روسيا وهيمنتها!
تشجع البداهة الجيوسياسية على القول إن روسيا تفضل دوراً أوروبياً في حوض المتوسط مستقلاً عن الولايات المتحدة، وقد تكون مستعدةً لشراكةٍ مع أوروبا في هذا الاتجاه، لكن أوروبا لم تعد قادرةً على ذلك، كما أن التجربة الأميركية في العراق وأفغانستان جعلت التدخل المباشر في المنطقة عملياتٍ مكلفةً بلا جدوى، وربما تكون الفكرة الأخرى البديهية أن تدعم روسيا دوراً إيرانياً، باعتبارها (إيران) الحليف الاستراتيجي لروسيا، لكن إيران تبدو متجهةً إلى الابتعاد عن روسيا، والاقتراب من الولايات المتحدة، وعلى هذا الأساس، ربما كان التدخل الروسي معاقبةً لإيران، ولأجل إبعادها من سورية.
والحال أن المشهد العالمي ما زال، منذ نهاية الثمانينيات، عصياً على الفهم، فهو أقرب إلى
الفوضى في تشكله وسلوكه، أو هو، كما وصفه ألكسندر دوغين في كتابه "أسس الجيوبولوتيكا، مستقبل روسيا الجيوبولوتيكي"، يشبه الطوفان الذي غمر الأرض، مشهد كما يقول يذكّر بالقصة التي وردت في الكتب المقدسة، عندما غمرت المياه اليابسة كلها، ولم ينج من الغرق سوى سفينة، أقلت فئة من المؤمنين، والكائنات الحية! فالانتصار الغربي، بما هو القوة البحرية على الخصم الشيوعي السوفيتي، بما هو القوة البرية، كان انتصار البحر على اليابسة، .. لقد غمر البحر (الولايات المتحدة) العالم، وأغرق الكرة الأرضية، ولم يعد ثمة مجال سوى إنقاذ الأرض، أو الانتظار.
وربما يكون ثمة تفسير يمكن تطبيقه من كتاب ليليا شيفتسوفا "روسيا بوتين"، وهو أن روسيا تشهد انتقالاً وارتباكاً بين الديمقراطية والدكتاتورية والاشتراكية والليبرالية والانزواء والعالمية، .. ولكن يبدو أنه انتقال صار مريحا للنخبة الجديدة المكونة من بوتين والقيادات السياسية والعسكرية المحيطة به، فقد شهدت روسيا تحولاتٍ اجتماعيةً مفاجئة، إذ يتحمس الشيوعيون للديمقراطية، ويدافع الليبراليون عن الدكتاتورية، لكن المفاجأة الأكثر تحدياً للقيادة الروسية هي أن الشعب الروسي أكثر اندماجاً في التحديث من النخب السياسية، بمعنى أنه لم يعد متحمساً للسياسات القيصرية الجديدة لبوتين، كما يرفض السياسات الشيوعية السابقة، وبدأ الروس يلاحظون أن مشروعات الإصلاح السياسي والاقتصادي لم تكن سوى وهم، كما أن انتصاراتٍ قوميةً وامبراطوريةً لم تعد ترضي أحداً في روسيا، الروس يشغلهم الفساد، والمزج بين السلطة والأعمال، وجدوى الخصخصة وآلامها والعنف، أكثر مما تشغلهم هزيمة الولايات المتحدة.
كان بوتين أقرب إلى أن يكون زعيماً شيوعياً من أن يكون زعيماً لفترة ما بعد الشيوعية، وكان سلوكه قاسياً مع منتقديه، وخصوصاً الإعلاميين، وأسكت "الدوما"، وأضعف كل المؤسسات السياسية الأخرى، وأرهب الصحافة، وصار القوة الوحيدة على المسرح السياسي، .. وفي الانسحاب، فإنه مشغول بتعزيز دوره، والانسجام مع حلفائه وأعوانه، وخصوصاً قادة الجيش والأمن الداخلي أكثر مما هو مشغول بدعم النظام السوري، أو إيران، أو مواجهة الولايات المتحدة.
وفي التناقض القائم اليوم في روسيا بين الطبقة السياسية المحافظة والمجتمع الأكثر ديناميكية، بين المنهج المؤيد للغرب والنزعة المركزية، بين الاقتصاد الليبرالي والطبقة البيروقراطية المركزية، بين التطلع للحرية ومحاولة كبتها، بين الاستقرار والحاجة للتغيير، صار لزاماً على روسيا أن تواجه الحقائق، ولم يعد ممكناً الهروب منها بدعاوى مكافحة الإرهاب والدور العالمي، فقد تكرّست في روسيا أجيال نشأت في مرحلةٍ من العولمة، ولا تعرف الخوف والاستبداد، ولا علاقة لها بالعهد الشيوعي، .. لقد هربت روسيا من نفسها إلى نفسها.
ربما كان بوتين يظن أن الأزمة السورية يمكن توظيفها، كما أمكن توظيف قضية الشيشان في تعزيز الجنرالات، وتكريس الثقة بسبب الخوف، وبحثاً عن الأمن، لكن روسيا ليست الشيشان، والاقتصاد الذي يتعرّض لضغوطٍ هائلة لا يحتمل المغامرات، والمعرفة المنتشرة والمنشئة لعلاقاتٍ جديدةٍ بين المجتمعات والسلطة تغير السياسة... يفترض أن بوتين أدرك معنى أن الناس يعرفون، إلا إذا كان لا يعرف عما حصل في الربيع العربي.
428F6CFA-FD0F-45C4-8B50-FDE3875CD816
إبراهيم غرايبة

كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت"