قتل الأجانب في مصر

08 فبراير 2016
+ الخط -
لا تجيد الأنظمة العسكرية سوى القتل. ولا فرق، هنا، ما إذا كان المقتول مواطناً أم أجنبياً. فعقيدة القتل واحدة، وإن اختلفت الدوافع وطرق التكييف والتنفيذ. وهنا، يمكن تسكين حادثة مقتل طالب الدكتوراه الإيطالي جوليو ريجيني والذي تم العثور على جثته على جانب الطريق الواصل بين القاهرة والإسكندرية قبل أيام. تكاد طريقة قتل ريجيني تكون مطابقة لكل حوادث القتل التي جرت في مصر منذ انقلاب الثالث من يوليو. خطف، ثم تعذيب، ثم قتل، ثم تخلص من الجثة. ولا يهم، هنا، ما إذا كان المقتول من "الإخوان المسلمين"، أو من "معارضيهم"، أو من المواطنين العاديين أو من الأجانب.
يقول بعضهم إن التحقيقات لا تزال جارية، ولا يجب القفز على النتائج، واتهام وزارة الداخلية بارتكاب الجريمة. وهؤلاء إما حسنو النية أو لا يرون ما يحدث في مصر، فالقتل على أيدي "الداخلية" أصبح أمراً روتينياً وطقساً يومياً، تمارس فيه كل أنواع الكراهية والإجرام والسادية. فحسب تقرير لوكالة أسوشيتيد برس، نقلا عن وزير الداخلية الإيطالي، أنجلينو ألفانو، فإن الطالب ريجيني تم التعامل معه كما لو كان "حيواناً". وبعد تشريح جثته في إيطاليا، اتضح أن ريجيني، والكلام للوزير الإيطالي، قد "تم لكمه في بطنه، وكسر فقرات عنقه". وتعتقد السلطات الإيطالية أن ريجيني قد تم التحقيق معه من سلطات الأمن المصرية، من أجل "معرفة إذا ما كان قام بالاتصال بعمال وناشطين كجزء من عمله البحثي".

ما حدث مع ريجيني لا يختلف كثيراً عما حدث مع الشاب محمد الجندي الذي تم تعذيبه وقتله في معسكر للأمن المركزي شرق مدينة القاهرة، بعد مشاركته في الذكرى الثانية لثورة يناير عام 2012، ولا عما حدث مع خالد سعيد، الشاب الذي تم كسر عنقه وفمه قبل شهور من اندلاع الثورة، وكان من أيقوناتها التي حرّكت قطاعات كثيرة من الشباب للانضمام إلى الثورة. ولا عمّا يحدث مع مئات الشباب المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين الذين يتم اختطافهم وتعذيبهم، للإدلاء باعترافاتٍ كاذبة من أجل إدانتهم. ويمكننا هنا سرد عشرات الحوادث التي تعرّض لها شبابٌ كثيرون في أقسام الشرطة، كقسم المطرية، التي تحولت إلى سلخانات للتعذيب والقتل تحت مرأى ومسمع من الدولة وأجهزتها. أذكر أنه، في أواخر التسعينات، وقع حادث مشابه لما تعرّض له الطالب الإيطالي، حين اختفي أحد الطلاب الأفغان الذين كانوا يدرسون في جامعة القاهرة، وكان طالباً محبوباً من الجميع، نظراً لأدبه الجم، لكنه تجرأ في إحدى الندوات، وانتقد رئيس الوزراء وقتها، فكان أن عثروا على جثته ملقاة في ترعة في منطقة الهرم في الجيزة، بعد أن نال منها التعذيب.
القاتل معروف للجميع، وهو الدولة البوليسية التي لا تعرف سلوكاً سياسياً وأمنيا ثابتاً سوى التعذيب والقتل. في حين أضحى السلوك البلطجي، قولاً وفعلاً، أمراً اعتيادياً، بدءاً من رئيس الدولة الذي لا يستحي أن يهدّد، في خطاباته وكلماته الرسمية، وعلى الملأ، بالانتقام لأهالي الشهداء من الشرطة والجيش، مروراً بوزير عدله الذي يحرّض علانية على قتل "الإخوان" من دون أن يرده أحد، إلى أمناء الشرطة الذين يعيثون في الأرض فساداً، من دون أن يردعهم مسؤول أو يوقفهم أحد.
ومن الأسى أنه لم يلفت اهتمام بعضهم في مسألة قتل الطالب الإيطالي، سوى ما يخص تأثيرها على "الحرية الأكاديمية"، والتي هي بالفعل في خطرٍ شديد مثل باقي الحريات تحت حكم العسكر. ولكن، يبدو أن هؤلاء قد نسوا، ربما بدون قصد، أن العسكر لا يعبأون أصلاً بحياة البشر، فما بالنا بحرياتهم وحقوقهم! ألا يتذكّر هؤلاء ما فعلته السلطات المصرية، حين فتحت نيران طائراتها على فوج من الشباب المكسيكي، كانوا يقومون بجولة سياحية في منطقة الواحات الغربية؟ وهل نسوا نحو 800 شخص، تم اصطيادهم وقتلهم من دون رحمة في يوم واحد في ميداني النهضة ورابعة العدوية في الرابع عشر من أغسطس/آب 2013؟ وهل نسوا أيضا أنه تم حرق 37 شخصا أحياء في عربة ترحيلات أبو زعبل بعدها بأربعة أيام؟ وهل نسوا تصفية تسعة قياديين في جماعة الإخوان المسلمين قبل الإفطار في شهر رمضان الماضي؟ وهل نسوا قنص الناشطة اليسارية شيماء الصباغ، وهي تحمل الورود في الذكرى الرابعة لثورة يناير؟
لا شيء يبدو غريباً إذا ما وضعنا ما يحدث الآن في مصر ضمن سياقات الأنظمة العسكرية الفاشية، وإنْ كان أقل كفاءة وأكثر رداءة، وهو نظام نجح، بمساعدة أذرعه الإعلامية، ومباركة من مثقفيه ذوي الخلفية العسكرية، في أن يحول "القتل" إلى فضيلة، والتعذيب إلى "شعيرة" يومية، تمارس بأعلى قدر من النزق والاستهانة بأرواح البشر، يجري تحتهما قتل المواطنين والأجانب، على حد سواء، وما دام ذلك يحدث تحت سيل من الشعارات الزائفة باسم "الوطنية" و"تثبيت الدولة" و"استعادة هيبتها".

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".