الأحزاب وعجزها في الربيع العربي

11 فبراير 2016
+ الخط -
لعل أهم ما ميز ثورات الربيع العربي غياب الأحزاب السياسية، وعجزها المهول عن الانخراط في دينامياتها المختلفة، في مقابل حيوية غير مسبوقة، لشبيبة متحمسة، ومتطلعة نحو التغيير الاجتماعي والسياسي التي أخفقت هذه الأحزاب، على اختلاف أطيافها واختياراتها الفكرية والإيديولوجية، في بلورة مشاريع متكاملة بشأنه.
أظهرت التحولات التي واكبت الأحداث، في الأعوام الخمسة المنصرمة، الإفلاسَ التنظيمي والفكري والسياسي لهذه الأحزاب، حيث عجزت عن الانخراط بإيجابيةٍ في أسئلة الواقع المستجدة، والتفاعل معها بشكل واع ومنتج ومسؤول، وأبانت تخبطاً كبيراً عكسته خطاباتها المتخشبة، وتكلس بنياتها وهياكلها الناتج عن عدم تجديد نخبها وكوادرها. وإذا كان من المفروض أن تشكل أداةً فعالةً للتأطير والتنشئة والتنمية السياسية وبناء الديمقراطية وإشاعة ثقافة الاختلاف، والتعبير الحي عن الاستقطابات المجتمعية الحقيقية، فقد تحولت إلى مؤسساتٍ مغلقةٍ لإنتاج (وتداول) المنافع والامتيازات والريع السياسي، وإعاقة كل أشكال الحراك الحزبي والاجتماعي، وتكريس الشيخوخة السياسية، وتغذية الاستبداد والفساد، باستنادها إلى شرعية زعمائها وقادتها التاريخيين، عوض شرعية ديمقراطية، تتيح تجديد النخب والأجيال والكفاءات، فأضحت بذلك نسخة هجينة من السلطوية العربية في أزمتها البنيوية.
في الصدد نفسه، كانت مسؤوليتها جسيمةً فيما يخص تدبير المرحلة الانتقالية، بكل قضاياها وأسئلتها المعقدة. وتنبئنا مختلف تجارب الانتقال الديمقراطي أنه كلما أبانت النخب الحزبية نضجا في هذه المرحلة، سواء على مستوى قراءة موازين القوى أو بناء خياراتها السياسية على أساس التوافق الوطني، أمكن تأمين العبور نحو بر الأمان الذي لا يعني غير تجنب الانزلاق إلى احترابٍ أهليٍّ، يجهز على مشروع التحول نحو الديمقراطية. وبالرجوع إلى ما حصل، في الأعوام الفائتة، يمكن القول إن غياب هذا النضج، ساهم في تعطيل مسار الثورات العربية، وفتح المجال أمام القوى المضادة الداخلية والإقليمية، للتربص بها وتصيد أخطائها القاتلة، والإجهاز الممنهج على أحلام الشعوب وتطلعاتها صوب الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
لم تدرك معظم التنظيمات الليبرالية واليسارية والعلمانية والإسلامية في بلدان الربيع العربي أن
سقوط الأنظمة لا يعني تفكيك بنياتها وأسسها الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية التي تنهض عليها، فإذا كانت القوى المختلفة المساندة هذه الأنظمة قد انحنت، مجبرةً، للعاصفة في بداية الأحداث، فذلك لا يعني انسحابها أو تراجعها والإقرار بهزيمتها، فقد ظلت ترقب الأحداث، وتحرّك خيوطها وتوجه مساراتها، انطلاقاً من خبرتها الاجتماعية والسياسية التي راكمتها، بحكم قربها من مواقع السلطة. يبدو ذلك واضحاً في الحالة المصرية، فمختلف الأحزاب لم تكن طرفاً فاعلاً وأصيلاً في إطلاق شرارة ثورة 25 ينايـر، بعد أن صارت مجرد واجهةٍ لتعدديةٍ حزبيةٍ مغشوشةٍ في نظام حسني مبارك، ووجدت نفسها فجأة أمام لحظةٍ لم تكن مستعدة لها سياسياً وثقافياً، ما أسهم، من جهة، في إيجاد فراغٍ في قيادة الثورة، وتحديد أهدافها المرحلية والاستراتيجية، على الرغم من كل الزخم الذي أشاعته في المنطقة، وفتح الباب أمام صراع فكري وأيدولوجي، تقوده رغبة جامحة في السيطرة على موارد السلطة من جهة أخرى، هذا فيما كان يُنتظر أن تنكبّ هذه الأحزاب على البحث عن أفكارٍ وتصوراتٍ تكون مقدمة لبناء توافق وطني، يسع الجميع، ويستوعب كل الاختيارات، في أفق إذابة الخلافات الفكرية أو على الأقل الحد من امتداداتها الخطيرة في سياق ما بعد الثورة. من هنا، شكل فشلُ الإسلاميين في إدارة المرحلة الانتقالية، وتنصلهم من إشراك القوى الليبرالية واليسارية والعلمانية، وعجزُ الأخيرة عن تقديم مبادراتٍ بديلةٍ منتجة، وقد فتح ذلك كله الباب أمام القوى المضادة، لرص صفوفها والانقضاض على السلطة، من خلال الانقلاب العسكري الذي أطاح حكومة محمد مرسي في 13 يوليو/ تموز 2013، وأعاد نظام مبارك في حلة جديدة.
لم يتوقف الأمر عند الحد، فقد أظهرت النخب الحزبية غياب تأثيرها، وضعف فاعليتها السياسية والتنظيمية داخل المجتمع، بعد أن فقدت الثورات بوصلتها، وانعرجت نحو مآلاتها المأساوية الحالية، وإذا ما استثنينا الحالة التونسية، فقد كان فشلها مريعاً في اختراق البنيات القبلية والعشائرية والطائفية العميقة للمجتمع، خصوصاً في ليبيا واليمن، ما ساهم، بشكل كبير، في الانزلاق نحو حرب أهليةٍ مفتوحةٍ على كل الاحتمالات.
ربما أسهمت التنظيمات الحزبية العربية في بناء تعدديةٍ حزبيةٍ تفاوتت أهميتها من قطر إلى آخر، حسب استراتيجية كل نظام، لكنها، بالتأكيد، فشلت في أن تكون جزءاً من تعددية سياسية تعكس حقيقة الصراع الاجتماعي وتحولاته، خصوصاً في المنعطفات التاريخية الكبرى، كما هو الشأن بالنسبة للربيع العربي.