في دلالات تفجير الكنيسة البطرسية

18 ديسمبر 2016
+ الخط -
ضرب تفجير إرهابي، يوم 11 ديسمبر/كانون الأول الجاري، الكنيسة البطرسية في مقرّ الكاتدرائية المرقسية في القاهرة، وقتل 26 شخصاً، وأصيب نحو 50، وأعلن ما يُسمى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في بيان مُقتضَبٍ له على شبكة الإنترنت، مسؤوليته عن الجريمة، قائلاً إنه جرى تنفيذها بواسطة انتحاري بحزام ناسف من أتباعه، بذكر كنيته من دون اسمه صراحة، تمكّن من تفجير نفسه وسط المصلين، في القاعة المخصّصة للصلاة بالكنيسة، وهو ما يتفق، إلى حد كبير، مع الرواية الرسمية للحادث الذي يُعدّ نقلة نوعية كبيرة في العمليات الإرهابية التي وقعت في مصر أخيراً، من عدّة أوجه، فهي المرّة الأولى التي يتم فيها استخدام تكتيك العمليات الانتحارية في تنفيذ العمليات الإرهابية، كما أنها المرة الأولى التي تخرج فيها دائرة الاستهداف عن أفراد المؤسسات الرسمية، من رجال الجيش والشرطة، وبدرجة أقل القضاء، إلى استهداف المدنيين. ولا يمكن، بالطبع، إغفال الجانب الطائفي في الحادث، باستهداف تجمّع قبطي داخل كنيسة (كان "داعش" قد ذبح نحو 20 مصرياً قبطياً في ليبيا منتصف فبراير/شباط 2015)، فضلاً عن الدلالة الرمزية التي يحملها تَمكُّن إرهابيي "داعش" من الوصول إلى هدف كبير، مثل مقرّ الكاتدرائية المرقسية في قلب القاهرة، حيث الإجراءات الأمنية مشددّة وغير عادية، ما يعني ضرورة مراجعة شاملة للمنظومة الأمنية التي يبدو أنها تعاني من خلل كبير، كما يعني أنّ خطر "داعش" قد بدأ في التمدّد إلى منطقة القلب، وتوجيه الضربات إلى العمق، بعدما اقتصر وجوده وضرباته، في الفترة الماضية، على الأطراف، أو في سيناء بصفة خاصة.
فور وقوع الحادث، ازدحم الفضاء الإعلامي المصري بموجة عاتية من ردود الأفعال الانفعالية 
التي غاب عنها العقل، وخلت من الاتزان، غلب عليها طابع الابتزاز، والاستثمار السياسي للحادث، والتي صبّت في المطالبة باعتماد مزيد من الحلول الأمنية "الاستئصالية" لمواجهة الإرهاب، عبر تطبيق مزيدٍ من الإجراءات القمعية، والمحاكمات العسكرية، مروراً بدعواتٍ "فاشية" طالبت بتنفيذ أحكام فورية بالإعدام، ولو من دون محاكمة، بحق المتهمين، وانتهاءً بمطالبات من بعضهم بتغيير البنية التشريعية والقانونية الحالية، وكأنّ المشكلة فيها.
يدعو الحادث إلى مراجعة الآليات المتبعة لمواجهة الإرهاب، والتي ما زالت تقتصر على الحلّ الأمني وحده الذي يتعامل مع العرَض وليس المرض، وتطويرها إلى استراتيجية شاملة ذات أبعاد سياسية، وفكرية، واجتماعية، إلى جانب المواجهة الأمنية. فالتطرّف والعنف لا يخرجان من العدم، بل ثمّة سياق مُنتِج لهما يتمثّل في إغلاق المجال العام، وتأميم المجال السياسي، ومصادرة منافذ الممارسة الديمقراطية، إلى جانب وجود أزمات اقتصادية - اجتماعية خانقة، بالإضافة إلى غلبة التعاطي الاستئصالي مع تيارٍ بعينه. ومن شأن كل هذه العوامل إغراق الشباب في حالةٍ عارمةٍ من الإحباط واليأس، ما يدفعهم دفعاً إلى تبنّي خيارات راديكالية سوداوية، ويصب مباشرة في مصلحة التطرّف. كما أنّ من شأن التعاطي مع التطرّف بمزيدٍ من القمع والبطش، توفير حاضنة مجتمعية لنشر التطرّف، وتوسيع الوعاء التجنيدي له، من العناصر التي وقعت تحت سنابك القمع، والتي تكون مُعبّأة بمشاعر ثأرية ونزعات انتقامية.
ويخبرنا التاريخ الحديث، والقريب، أنّ الاقتصار على الحلول الأمنية لم يفلح يوماً في مواجهة التطرّف والإرهاب، بل إنه يؤدي دوماً إلى نتائج عكسية، فلم تخرج الأفكار المنحرفة والمتطرّفة إلا من رحم الزنازين وغياهب السجون، فمن "السجن الحربي" خرجت السردية القطبية الخطيرة المتمثّلة في كتاب "معالم في الطريق" الذي يُعدّ "مانيفيستو" الحركات التكفيرية العنيفة، وكانت خلية "الفنية العسكرية" عام 1974 (جاءت بعد بضع سنين من المواجهة الاستئصالية التي خاضتها الدولة الناصرية مع جماعة الإخوان المسلمين) بمثابة الظهور الأول للتنظيمات التكفيرية في مصر منذ الحملة الفرنسية.
قبل الربيع العربي، كانت الحركات الجهادية الراديكالية التي تتخذ من العنف منهجاً وسبيلاً تقدّم نفسها النقيض الموضوعي الوحيد للأنظمة السلطوية الحاكمة في العالم العربي، وأنّ الخيار السلمي الديمقراطي للتغيير مجرّد وهم كبير، حيث لا يجدي مع تلك الأنظمة سوى العنف.
بيْد أنّ نجاح الربيع العربي في إطاحة نظاميْن سلطوييْن عاتييْن، في تونس ومصر، عبر
ثورتيْن شعبيتيْن سلميتيْن، ألقى بدلوٍ من الماء البارد على ذلك الطرح الراديكالي العنيف، وأظهر مدى بؤسه وإفلاسه، وهو ما أصاب تلك الحركات بحالة ارتباكٍ كبيرة، حيال مشهد التغيير السلمي الذي نجح فيما عجزت هي عن تحقيقه بممارسة العنف، وشعرت بأن موجة التغيير السلمي قد تسحب البساط من تحت أقدامها، الأمر الذي دفعها، كما يقول الباحث الأردني المرموق محمد أبو رمّان، إلى محاولة "التكيّف الأيديولوجي" مع الربيع العربي، وهو ما بدا واضحاً في عدّة مقالاتٍ تناولت الربيع العربي، لعدد من قيادات تنظيم القاعدة، مثل أبو يحيى الليبي والظواهري والعولقي، ثمّ زعيم التنظيم حينذاك أسامة بن لادن، كانت محصّلتها محاولة استيعاب المستجدّات الجديدة ، مع الاحتفاظ بالتميّز الأيديولوجي، عبر الإصرار على تطبيق الشريعة، ومعاداة الغرب.
بيْد أن انتكاسة العملية الديمقراطية، وموجة الجزر التي أعقبت موجة المدّ الثوري، وتعثّر مسيرة التحوّل الديمقراطي، وانطلاق موجة الثورات المضادة، وانسداد المجال السياسي، والتعاطي مع الإسلاميين بشكل استئصالي، مَنحَ تيارَ الغلوّ والتطرّف قُبلةَ الحياة، وأعاده إلى المشهد مُجدّداً، بنسخة جديدة هي الأشدّ دمويةً والأبشع إجراماً، بدت النسخة القديمة بجوارها، على قدرٍ من "الاعتدال" في نزعتها "التكفيرية" وممارساتها العدوانية. ففي أغسطس/آب 2013، خرج زعيم "القاعدة" أيمن الظواهري بخطاب كان عنوانه "صنم العجوة الديمقراطي"، عاد فيه إلى منهجه القديم في معاداة الديمقراطية، وعدم الاعتراف بها. أمّا المتحدّث الإعلامي السابق باسم "داعش" أبو محمد العدناني، فقد خرج بخطاب أعنف لهجةً، وأكثر حدّةً، كان عنوانه "السلمية دين من؟"، حمل فيه حملةً شعواء على الحركات الإسلامية التي تقبل بالديمقراطية، والعمل بالقوانين "الوضعية"، مؤكّداً على "كفرها"، شأنها شأن الأنظمة الأخرى، ومؤكّداً على تبني خيار العنف وحيداً للتغيير.
صفوة القول: لا ينتشر التطرّف إلا في ظلّ مناخ مأزومٍ مُغلقٍ، والحلول الأمنية وحدها لا تكفي للتعامل الناجع مع الإرهاب، ما لم تصاحبها رؤية سياسية، تقوم على انفتاح المجال العام، وفتح أبواب الممارسة الديمقراطية، والمشاركة التعددّية، وهو ما يؤدي إلى تداول السلطة، وتوزيع الثروة، ما يمنح عموم الناس، لاسيّما قطاعات الشباب، بصيصاً من الأمل في غدٍ أفضل، يمنعهم من السقوط في مهاوي التطرّف.