تونس... درب الألم والأمل

30 نوفمبر 2016

بن سدرين في أولى جلسات لجنة الحقيقة والكرامة (17/11/2016/الأناضول)

+ الخط -
فتحت تونس كتاب الألم، وشرعت في قراءة الصفحات السوداء من كتاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، من يوم الاستقلال إلى ساعة هروب زين العابدين بن علي إلى السعودية. الثورة ما زالت حية، ومن يريد أن يتأكد ما عليه إلا أن يفتح التلفزيونات والإذاعات والمواقع الإلكترونية والصحف، ليرى الضحية يحاكم الجلاد في جلسات الاستماع العلنية التي تنظمها هيئة الحقيقة والكرامة في تونس، في إطار تصفية إرث الماضي في بلاد الزيتون ما بين 1955 و2013. إنه تمرين قاسٍ لك.
جلستان فقط للاستماع إلى عينة صغيرة من ضحايا بورقيبة وبن علي كانتا كافيتين لأن تهتز تونس مرة أخرى، ويقتنع الكبير والصغير بأن ثورة الياسمين كانت ضروريةً لتوقيف آلة القتل والتعذيب والانتقام من المعارضين. وإذا كانت تونس اليوم تعاني أزماتٍ سياسية واقتصادية وأمنية، وإذا كانت تونس لم تستعد بعد عافيتها، فمقابل هذا، تعرّي البلاد جسدها المثخن بالجراح تحت أشعة الشمس، والغرض فضح آلة القمع، وتلقيح المجتمع ضد السلطوية، وإقناع النخبة بأن حقوق الإنسان وكرامة البشر واستقلالية القضاء ونزاهة الشرطة واحترام دولة القانون ليست إكسسوارات، وأن الإفلات من العقاب ليس قدراً محتوماً، وأن ساعة الحساب يمكن أن تدقّ في الأرض قبل السماء.
في تونس بن علي، لم يكن التعذيب غلطة شخصٍ أو جهاز، ولم يكن الاختطاف حادثةً معزولة، ولم يكن الاغتصاب نزوة سجّان، ولم تكن الأحكام الجائرة استثناءً من القاعدة. كانت في البلاد منظومة كاملة للتعذيب والإهانة والانتقام من المعارضين، إسلاميين ويساريين، حقوقيين وصحافيين، عمالاً وموظفين. كل هذا تحت شعار تصفية منابع التطرف والإرهاب.
يحكي سامي براهم، عضو حزب النهضة الإسلامي، كيف كان الجلادون يجرّدون السجناء من ملابسهم، ويضربونهم بالعصيّ، ويضعونهم فوق بعضهم بعضاً أكواما بشرية وهم عراة، في عنف جسدي وجنسي ونفسي غير مفهوم. حدث هذا كله بعد المحاكمات وليس قبلها، وبعد إدانتهم بالمنسوب زوراً إليهم. لم يكن غرض التعذيب هنا انتزاع اعترافٍ أو الإقرار بجريمة.. بل كان كان غرضه كسر الإنسان، وبث الرعب في نفسه، حتى ينقله إلى أسرته ومجتمعه، فلا يعود أحد يقدر على فتح فمه أو التفكير في معارضة السلطة القائمة.
وقفت بسمة البلعي بوجه شاحب أمام الجمهور، تحكي قصتها الأليمة التي تبدأ بمشهدٍ مرعب، يقف فيه مخبرٌ يمسك بيده تفاحة وهو يقضمها، قائلا لبسمة الممزّقة الثياب: "أنا ماجي ناكلك"… لم تتعرض بسمة هي فقط للتعذيب والمعاملة الوحشية، بل ذاقت أسرتها كاملة صنوفاً من وحشية نظام بن علي، حيث تحكي كيف جاؤوا بوالدها الشيخ، وبدأوا يعذّبونه أمام عينيها، وهي تصرخ وتطلب منهم أن يعذّبوها بدلا عنه. كان هذا كله يحدث في تونس التي كان العالم الغربي معجباً بنموذجها.. نموذج "تنمية بدون ديمقراطية" و "تحديث بدون إنسانية".
تدخل جلسات تعرية الكتاب الأسود انتهاكات حقوق الإنسان في الستين سنة الأخيرة من عمر الدولة في تونس، ضمن مسلسلٍ للعدالة الانتقالية، الذي تشرف عليه هيئة الحقيقة والكرامة التي تأسست بموجب قانون بعد الثورة، والهدف، كما تقول رئيسة الهيئة، سهام بن سدرين، "ليس التشفي في الجلاد ونظامه، وليس بث الأحقاد، ولكن قراءة الصفحات السوداء من تاريخ البلد، وتحديد المسؤوليات، فلا صوت يعلو فوق صوت الضحايا، وبعدها، فلتغطّ الفظاعات برداء التسامح والوعد بعدم تكرار ما جرى".
هذه ثاني تجربة للعدالة الانتقالية في العالم العربي بعد المغرب، لكن الأمل، كل الأمل، أن تحقق التجربة التونسية ما لم تستطع التجربة المغربية تحقيقه، ذلك أن جلسات الاستماع التي نقلت عبر التلفزة في المغرب، والمجلدات التي كتبت من أفواه الضحايا عن سنوات الجمر والرصاص في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، والتوصيات التي انبثقت عن هيئة الإنصاف والمصالحة، لم تكن كافيةً لتجعل البلاد منطقة آمنة من انتهاكات حقوق الإنسان والمحاكمات الصورية، ولم تكن كافيةً لإرساء دعائم قضاء مستقل عن السلطة، ولا لإرساء حكامةٍ جيدة في المؤسسات الأمنية. ما زالت المملكة المغربية تعزف على لحنيْن، وتتصرّف، أحيانا، كدولة حق وقانون، وتتصرّف، أحياناً أخرى، دولة مزاجٍ بلا حق ولا قانون.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.