شعب كبير ينتخب رئيساً صغيراً

16 نوفمبر 2016
+ الخط -
صوّتت أميركا، قبل ثماني سنوات، لأقصى اليسار، وحملت أستاذاً جامعياً أسود إلى البيت الأبيض، أما يوم الثلاثاء في الأسبوع الماضي، فصوتت لأقصى اليمين، واختارت مليارديراً أبيض شعبوياً، ليكون الرئيس 45 للولايات المتحدة الأميركية. وكما أثار أعصاب العالم بحملته الصاخبة، وسعيه إلى رئاسة أقوى دولة، ها هو دونالد ترامب يحيّر المراقبين في تفسير فوزه الكاسح على مرشحة المؤسسة الأميركية، هيلاري كلينتون، مكذباً كل التوقعات التي كانت تبشّر بفوز سهل للأخيرة. من التفسيرات التي تساعد على فهم تصويت الأميركيين الغاضب هذا:
ليست الديمقراطية نظاماً مثالياً: دخل ترامب وأنصاره المتطرفون من ثقوب عيوب الديمقراطية إلى قلب القرار الأميركي، فإذا كانت الديمقراطية أفضل نظام أنتجه البشر لإدارة السلطة والثروة إلى الآن، فإن هذا النظام ليس محصّناً ضد الشعبوية والتطرّف والعنصرية، والتصويت غير العقلاني للشعب، في أوقات الأزمات. هذا ما وقع يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي. انفصلت الديمقراطية بوصفها آلية عن الليبرالية وجوهرها، وأعطتنا تصويتاً عقابياً ضد مؤسسات الدولة الأميركية، لكنه تصويت قد ينتج كوارث، مثلما وقع في ألمانيا وإيطاليا في الثلاثينيات والأربعينيات. لكن، مع ذلك، الديمقراطية قادرة على تصحيح أخطائها، على خلاف الديكتاتورية التي تدمر الكيان وتعصف بالأمة.
الكراهية تبيع: كل ما عرضه دونالد ترامب على الناخب الأميركي هو الكراهية تجاه الأقليات والسود والمسلمين والنساء والشركات الكبرى والطبقة التقليدية في واشنطن والصين الشعبية، واللائحة طويلة. وجد كثيرون من المواطنين البيض الأقل تعليماً والأقل دخلاً، والذين يعيشون في الولايات الداخلية المحافظة، أن ترامب يتحدّث بلسانهم، ويعبّر عما لا يستطيعون هم قوله تجاه كل القضايا الحسّاسة، فمالوا إليه مصدّقين حكاية أن السياسي العفوي قد يكون صادقاً.
الإعلام الجديد يهزم الإعلام التقليدي: كانت صدمة وسائل الإعلام التقليدية مزدوجة (واشنطن بوست، ونيويورك تايمز، وUSA today وCNN وCBS...). فمن جهةٍ، صُدمت وسائل الإعلام هذه بفوز ترامب، باعتبارها وسائل إعلام تمثل الأوساط الليبرالية والطبقات الوسطى. ومن جهةٍ أخرى، صُدمت من فوز ترامب، لأنها لم تستطع أن تهزم شعبوياً من خارج (الإستبلشمينت)، وأن تبعد عنه الناخب الذي وصل إليه تاجر العقارات من خلال تدوينات صغيرة ومباشرة عبر "تويتر" و"فيسبوك". الأغلبية الساحقة من وسائل الإعلام التقليدية، ومعها مراكز البحث والتفكير واستطلاعات الرأي، كلها وقفت في وجه ترامب، ورسمت له صورة الوحش، وحذّرت الناخبين منه. ومع ذلك، استطاع المرشح المرعب أن يتواصل مباشرةً مع الناخبين، وأن يقنعهم باختياره. هذا تحوّلٌ جوهريٌّ في عالم السياسة والميديا سيسيل مداداً كثيراً، إن كان لايزال للمداد من مكانٍ أمام بريق الهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية.
الناس لا يبحثون عن الحقائق، بل عن الأهواء: الذين صوتوا في الانتخابات لدونالد ترامب لم يدقّقوا في حقيقته، بل كانوا يسقطون رغباتهم عليه. وعدهم بإيجاد 25 مليون فرصة عمل. كيف يا سيد ترامب؟ بترحيل 11 مليون مهاجر غير قانوني من البلاد، وبناء سور طويل مع المكسيك، وفرض عقوباتٍ على الشركات التي ترحل صناعاتها إلى خارج البلاد، هل يوجد من يصدّق هذا الكلام؟ نعم، للأسف، يوجد، وقد رأينا الأميركيين يصوّتون له بكثافة يوم الثلاثاء الكبير.
إذا كان من السابق لأوانه التكهن بتوجهات ساكن البيت الأبيض الجديد، وما إذا كان الحزب الجمهوري سيستعيد ابنه الضال، أم أن الابن هو الذي سيجعل من الجمهوريين "ترامبيين"، فإنه، مع ذلك، يمكن التنبؤ، من الآن، بتعمق الاتجاه الانعزالي لأميركا تجاه العالم، والانسحاب من بؤره المتوترة، واعتماد القوة العسكرية مكان الدبلوماسية، وعدم الاهتمام بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والتغيرات المناخية والقانون الدولي والأمم المتحدة… إننا أمام نسخةٍ رديئةٍ من جورج بوش الابن، مع نزعة انكماشٍ على الذات، عِوَض الهيمنة على العالم التي كان المحافظون الجدد يسعون إليها، وأدت بهم، وبالعالم، إلى الكوارث التي نراها.
قال الأديب البرتغالي جوزيه ساراماغو، الحاصل على جائزة نوبل للآداب في 1998، عن الشعب الأميركي: إنه شعب كبير، يميل غالباً إلى انتخاب رؤساء صغار.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.