13 نوفمبر 2024
الثورات العربية والبراغماتية الكردية
شكلت بداية الثورات العربية مرحلة جديدة في تاريخ العرب. كانت محملةً بالآمال العظيمة، وأنَّ هناك مستقبلاً جديداً سيدخلون فيه. تشبّثت الأنظمة القديمة بالحكم (اليمن، سورية، ليبيا، العراق) وأُدخلت البلاد العربية بأزماتٍ على المستويات كافة. كانت الحصيلة في الدول المستجيبة لأهداف الثورات إعادة تسلّم الأنظمة القديمة السلطة، مثل تونس ومصر. وليست بقية الدول التي لم تضعضها الثورات في حالة مثالية، ولا تشكل أي نموذج يُحتذى، وليست قادرة على قيادة مشروع عربي لمواجهة التدخلات الإقليمية، من تركيا وإيران وإسرائيل، ولا على مواجهة التدخلات الإمبريالية، كما الحال من روسيا تحديداً، وكذلك أميركا وأوروبا.
برز في هذا الوضع دور كردي جديد، دورٌ يُوظف ذاته في المشروع الأميركي والتبعية له، وبما يحقق للكرد مصالحهم، وهذا ما اتضح بشكل كبير في العراق، ومنذ الغزو الأميركي فيه عام 1990، وتجدّد حينما احتلت أميركا العراق بشكل كامل 2003. كانت هذه العلاقة تتطور على حساب العرب في العراق، وبسبب طائفية النظام في هذا البلد، وعدم إنصاف الكرد والاستجابة لمصالحهم ضمن وحدة العراق؛ أيضاً كانت حسابات الكرد في غاية البراغماتية، أي الاستفادة من الدولة العراقية، طالما أن الظروف الدولية والإقليمية لا تسمح بقيام دولة كردية مستقلة.
بعد قيام الثورة السورية في العام 2011، اتخذت القوى السياسية الكردية موقفاً قومياً خاصاً بها، لا هو ضمن الثورة، وليس ضمن تحالفات النظام بشكل كامل، والاستفادة من الوضع الناشئ من أجل تحقيق أوسع الحقوق لصالح الأكراد، والذي تجاوز مسألة الحقوق الثقافية
والمواطنة، وصارت الأحلام تُهدِّد سورية بشيء من التفكير الانفصالي، وإن لم يُعلن عن ذلك بوضوح كامل، فهناك الفيدرالية وكردستان الغربية، وهناك التهجير للعرب، وهناك ادّعاء مُسفٌّ أن العرب دواعش. ويأتي هذا التوظيف الأيديولوجي ضمن الحملة الأميركية في الحرب على الإرهاب، وللانخراط كقوات برية للائتلاف الدولي ضد داعش، وهو ما تحقّق لقوات صالح مسلم، ولا سيما في أثناء تحرير عين العرب (كوباني) ومنبج. والآن، هناك توكيل أميركي لقوات مسلم لتحرير الرقة.
صالح مسلم لا يعنيه أن تشتعل حربٌ كبيرة بين العرب والكرد، فأغلب قيادات تنظيمه من أكراد تركيا، وهو على خلاف كبير مع بقية القوى الكردية السورية، وإن لم يختلفوا كثيراً في الرؤية لمستقبل الكرد في سورية! وقد بدأت معالمها (الحرب) المستقبلية تظهر عبر ممارسات التهجير القسري في بلدات الحسكة وتل أبيض، ومن ممارساتٍ استبداديةٍ إلغائية لأهالي منبج، ومنعهم من إدارة شؤونهم عبر مجلسهم المحلي المنتخب. ويمثل التوكيل الجديد، والذي أعلن عنه الكرد والأميركان في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، مشكلة كبيرة للعلاقات المستقبلية بين القوميتين.
رفضت الفعاليات السياسية في الرقة في بيانٍ (منشور على موقع مجلس مدينة الرقة) توكيل قوات صالح مسلم لتحرير الرقة، وهذا يعني، بشكل واضح، أن التنسيق الأميركي الكردي لمصلحة الكرد ضمن المنظور المباشر، ومرفوض عربياً، وستكون حصيلته حرباً كردية عربية في سورية مستقبلاً؛ هذا هدف أميركي، وهو ليس جديداً، حيث تقوم الإستراتيجية الأميركية وكل إستراتيجية امبريالية على عوامل التفريق بين الشعب، وفقاً للهويات القومية أو الطائفية والعشائرية والعائلية. وبالتالي، ما يفعله صالح مسلم بأكراد سورية خطير للغاية، فهو يقودهم إلى المجزرة في المستقبل، ونضيف هنا: إذا كان هناك مبرّر سياسي ما لتشكيل جيش كردي في سورية و"تحرير" مناطق ذات وجود كردي كبير، فإن معظم ما فعلته قوات صالح مسلم كان بغطاء من النظام، ولم تقارعه مطلقاً، وضد العرب الثائرين، ولم تُحرّر مدينة فيها أكراد كثيرون، بل ما زال النظام في القامشلي والحسكة قوياً، وربما أكثر من المدن التي تحت سيطرته الكاملة؟!
معركة الرقة، كما معركة الموصل، ستُعزز أدوار الكرد في العراق وسورية؛ وإذ تتكرّر التحذيرات للبشمركة الكردية، ولقوات الحشد الشعبي الإيرانية، ويتم التساوي بينها في دخول الموصل، فإن القوى السياسية في الرقة رفضت الأمر بأكمله. ورفض المحاولات الكردية للتمّدد في البلدين متأتٍ من إعلان قوات مسعود البرزاني، أو قوات صالح مسلم، أن المناطق التي "تحرّرها" لن تتراجع عنها، وستحاول وصلها بالمناطق التي تسيطر عليها، أي هناك تخوف عربي من الإستراتيجية الكردية، والتي تقوم على قضم مناطق عربية، والتأسيس لحروب مستقبلية. هناك سبب آخر للتخوف، فأكراد مسعود البرزاني يتحالفون مع تركيا، وأكراد صالح مسلم يتحالفون مع إيران، وهناك أسباب كثيرة للقول بتنسيقهم مع النظام كذلك. النقطة الأخيرة مصدر تشكيك كبير من المعارضة السورية، أي أن تحرير الرقة لن يكون مرفوضاً من النظام، وبالتالي، سيُعتبر التحرير ضربةً قوية ضد المعارضة في حال قامت بذلك قوات مسلم، وبغطاء أميركي، وهذا ما قد يقارب بين روسيا وأميركا والنظام في هذه المعركة.
ما فعله "داعش" بالكرد، فعل أسوأ منه بالعرب، والفعل نفسه تكرّره الفصائل الإسلامية و"الجهادية" بالمناطق التي تسيطر عليها. وبالتالي، هناك أسباب كثيرة للتقارب بين الكرد
والعرب، وما يعيق ذلك رؤية تنظيم صالح مسلم حدود دويلته، وربما ارتباطه مع النظام وإيران، وكذلك محدودية رؤية الفصائل الإسلامية لحقوق الكرد في سورية أو العراق. لا يمكن للمعارضة السورية العربية قبول أي دور كردي على حساب العرب في الحرب وفي السياسة، فهي تطرح رؤية سياسية لكل سورية، وإن كانت لا تتجاهل الحقوق الثقافية والتعليمية للكرد، لكنها بالتأكيد ضد كل محاولة تقسيمية لسورية، أو بناء جيش قومي مهمته الوحيدة ليست المطالبة بالحقوق ضمن الدولة، بل تشكيل كيان سياسي على حساب الدولة والقوميات الأخرى، كما يجري في المناطق التي يسيطر عليها صالح مسلم.
لا ينفي تعامل صالح مسلم، أو مسعود البرزاني، مع النظامين في دمشق وبغداد، مطلقاً أنه، وفي حال تهيئة شروط لقيام دولة أو كيان سياسي مستقل عن الدولة المركزية، سيتم تفويت الفرصة، بل سيكون الأمر متحققاً بشكل فوري، وبالتالي، ليس من تناقض في المنظور البراغماتي: التعامل مع الأنظمة إلى لحظة تهيئة شروط لقيام كيان سياسي كردي.
يوضح القرار الأميركي بدء معركة الرقة، ورفض تركيا لها، وصمت روسيا حولها، أن أميركا لن تترك سورية لروسيا بشكل كامل، وكذلك لن تسمح روسيا أو أميركا لإيران بالبقاء طويلاً كذلك. ليس فقط الصمت الروسي عن معركة الرقة، بل وكذلك الاستمرار في تثبيت الهدنة في حلب، على الرغم من التقدم الكبير لقوات المعارضة، والذي يفهم منه أن لتركيا حصة كبيرة في حلب، وكذلك لأميركا، وأن على النظام وإيران أن يستوعبا جيداً أن سورية محكومةٌ في إطار التنسيق الأميركي الروسي.
يمكن أن تقرأ الرسالة هذه كذلك كونها موجهةً ضد المعارضة والأكراد معاً، أي أن للأكراد حقوقاً، ولا بد أن يُعترَف بها. ولكن، ضمن الدولة السورية، وفي إطار اللامركزية الإدارية، وأن على المعارضة أن تتخلى نهائياً عن التنظيمات الجهادية، ومنها "فتح الشام"، وربما "أحرار الشام"؛ ويخطئ صالح مسلم كثيراً إن توهم أن الأميركان سيدعمون قيام كيان كردي خارج إطار اللامركزية هذه، وسيعود إلى الشعور بالخذلان لاحقاً.
ستتعقد المعركة في الرقة، بسبب الهيمنة الكردية على قوات سورية الديمقراطية، ورفض تركيا لها، والرفض العربي لقوات صالح مسلم، وهو ما سيستفيد منه "داعش" كثيراً في تعزيز وجوده فيها. وفي حال الانتصار، لن تكون نتيجته إدارة تابعة لصالح مسلم، وسيُطلب منه ترك الرقة كما سيترك منبج كذلك، وربما تكون معركة الرقة والتعقيد الملاحظ بخصوص معركة حلب، بداية التقارب الجديد بين روسيا وأميركا بخصوص الوضع في سورية، ووضع مقاربة جديدة له.
بدأ المقال بالإشارة إلى وضع الدول العربية المنهار، وهذا لنوضح أن المنطقة العربية بأكملها، سواء التي حصلت فيها الثورات أو لا، تتعرّض لتدخلات إقليمية واسعة، وكذلك لبزوغ المشروع الكردي، لكنها ليست قادرة على مواجهة التحدّيات، وهذا يعني الإمعان في التفتت العربي وفقاً للهويات الدينية والقومية والعشائرية. مصير سيئ لبداية ثورية واعدة.
برز في هذا الوضع دور كردي جديد، دورٌ يُوظف ذاته في المشروع الأميركي والتبعية له، وبما يحقق للكرد مصالحهم، وهذا ما اتضح بشكل كبير في العراق، ومنذ الغزو الأميركي فيه عام 1990، وتجدّد حينما احتلت أميركا العراق بشكل كامل 2003. كانت هذه العلاقة تتطور على حساب العرب في العراق، وبسبب طائفية النظام في هذا البلد، وعدم إنصاف الكرد والاستجابة لمصالحهم ضمن وحدة العراق؛ أيضاً كانت حسابات الكرد في غاية البراغماتية، أي الاستفادة من الدولة العراقية، طالما أن الظروف الدولية والإقليمية لا تسمح بقيام دولة كردية مستقلة.
بعد قيام الثورة السورية في العام 2011، اتخذت القوى السياسية الكردية موقفاً قومياً خاصاً بها، لا هو ضمن الثورة، وليس ضمن تحالفات النظام بشكل كامل، والاستفادة من الوضع الناشئ من أجل تحقيق أوسع الحقوق لصالح الأكراد، والذي تجاوز مسألة الحقوق الثقافية
صالح مسلم لا يعنيه أن تشتعل حربٌ كبيرة بين العرب والكرد، فأغلب قيادات تنظيمه من أكراد تركيا، وهو على خلاف كبير مع بقية القوى الكردية السورية، وإن لم يختلفوا كثيراً في الرؤية لمستقبل الكرد في سورية! وقد بدأت معالمها (الحرب) المستقبلية تظهر عبر ممارسات التهجير القسري في بلدات الحسكة وتل أبيض، ومن ممارساتٍ استبداديةٍ إلغائية لأهالي منبج، ومنعهم من إدارة شؤونهم عبر مجلسهم المحلي المنتخب. ويمثل التوكيل الجديد، والذي أعلن عنه الكرد والأميركان في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، مشكلة كبيرة للعلاقات المستقبلية بين القوميتين.
رفضت الفعاليات السياسية في الرقة في بيانٍ (منشور على موقع مجلس مدينة الرقة) توكيل قوات صالح مسلم لتحرير الرقة، وهذا يعني، بشكل واضح، أن التنسيق الأميركي الكردي لمصلحة الكرد ضمن المنظور المباشر، ومرفوض عربياً، وستكون حصيلته حرباً كردية عربية في سورية مستقبلاً؛ هذا هدف أميركي، وهو ليس جديداً، حيث تقوم الإستراتيجية الأميركية وكل إستراتيجية امبريالية على عوامل التفريق بين الشعب، وفقاً للهويات القومية أو الطائفية والعشائرية والعائلية. وبالتالي، ما يفعله صالح مسلم بأكراد سورية خطير للغاية، فهو يقودهم إلى المجزرة في المستقبل، ونضيف هنا: إذا كان هناك مبرّر سياسي ما لتشكيل جيش كردي في سورية و"تحرير" مناطق ذات وجود كردي كبير، فإن معظم ما فعلته قوات صالح مسلم كان بغطاء من النظام، ولم تقارعه مطلقاً، وضد العرب الثائرين، ولم تُحرّر مدينة فيها أكراد كثيرون، بل ما زال النظام في القامشلي والحسكة قوياً، وربما أكثر من المدن التي تحت سيطرته الكاملة؟!
معركة الرقة، كما معركة الموصل، ستُعزز أدوار الكرد في العراق وسورية؛ وإذ تتكرّر التحذيرات للبشمركة الكردية، ولقوات الحشد الشعبي الإيرانية، ويتم التساوي بينها في دخول الموصل، فإن القوى السياسية في الرقة رفضت الأمر بأكمله. ورفض المحاولات الكردية للتمّدد في البلدين متأتٍ من إعلان قوات مسعود البرزاني، أو قوات صالح مسلم، أن المناطق التي "تحرّرها" لن تتراجع عنها، وستحاول وصلها بالمناطق التي تسيطر عليها، أي هناك تخوف عربي من الإستراتيجية الكردية، والتي تقوم على قضم مناطق عربية، والتأسيس لحروب مستقبلية. هناك سبب آخر للتخوف، فأكراد مسعود البرزاني يتحالفون مع تركيا، وأكراد صالح مسلم يتحالفون مع إيران، وهناك أسباب كثيرة للقول بتنسيقهم مع النظام كذلك. النقطة الأخيرة مصدر تشكيك كبير من المعارضة السورية، أي أن تحرير الرقة لن يكون مرفوضاً من النظام، وبالتالي، سيُعتبر التحرير ضربةً قوية ضد المعارضة في حال قامت بذلك قوات مسلم، وبغطاء أميركي، وهذا ما قد يقارب بين روسيا وأميركا والنظام في هذه المعركة.
ما فعله "داعش" بالكرد، فعل أسوأ منه بالعرب، والفعل نفسه تكرّره الفصائل الإسلامية و"الجهادية" بالمناطق التي تسيطر عليها. وبالتالي، هناك أسباب كثيرة للتقارب بين الكرد
لا ينفي تعامل صالح مسلم، أو مسعود البرزاني، مع النظامين في دمشق وبغداد، مطلقاً أنه، وفي حال تهيئة شروط لقيام دولة أو كيان سياسي مستقل عن الدولة المركزية، سيتم تفويت الفرصة، بل سيكون الأمر متحققاً بشكل فوري، وبالتالي، ليس من تناقض في المنظور البراغماتي: التعامل مع الأنظمة إلى لحظة تهيئة شروط لقيام كيان سياسي كردي.
يوضح القرار الأميركي بدء معركة الرقة، ورفض تركيا لها، وصمت روسيا حولها، أن أميركا لن تترك سورية لروسيا بشكل كامل، وكذلك لن تسمح روسيا أو أميركا لإيران بالبقاء طويلاً كذلك. ليس فقط الصمت الروسي عن معركة الرقة، بل وكذلك الاستمرار في تثبيت الهدنة في حلب، على الرغم من التقدم الكبير لقوات المعارضة، والذي يفهم منه أن لتركيا حصة كبيرة في حلب، وكذلك لأميركا، وأن على النظام وإيران أن يستوعبا جيداً أن سورية محكومةٌ في إطار التنسيق الأميركي الروسي.
يمكن أن تقرأ الرسالة هذه كذلك كونها موجهةً ضد المعارضة والأكراد معاً، أي أن للأكراد حقوقاً، ولا بد أن يُعترَف بها. ولكن، ضمن الدولة السورية، وفي إطار اللامركزية الإدارية، وأن على المعارضة أن تتخلى نهائياً عن التنظيمات الجهادية، ومنها "فتح الشام"، وربما "أحرار الشام"؛ ويخطئ صالح مسلم كثيراً إن توهم أن الأميركان سيدعمون قيام كيان كردي خارج إطار اللامركزية هذه، وسيعود إلى الشعور بالخذلان لاحقاً.
ستتعقد المعركة في الرقة، بسبب الهيمنة الكردية على قوات سورية الديمقراطية، ورفض تركيا لها، والرفض العربي لقوات صالح مسلم، وهو ما سيستفيد منه "داعش" كثيراً في تعزيز وجوده فيها. وفي حال الانتصار، لن تكون نتيجته إدارة تابعة لصالح مسلم، وسيُطلب منه ترك الرقة كما سيترك منبج كذلك، وربما تكون معركة الرقة والتعقيد الملاحظ بخصوص معركة حلب، بداية التقارب الجديد بين روسيا وأميركا بخصوص الوضع في سورية، ووضع مقاربة جديدة له.
بدأ المقال بالإشارة إلى وضع الدول العربية المنهار، وهذا لنوضح أن المنطقة العربية بأكملها، سواء التي حصلت فيها الثورات أو لا، تتعرّض لتدخلات إقليمية واسعة، وكذلك لبزوغ المشروع الكردي، لكنها ليست قادرة على مواجهة التحدّيات، وهذا يعني الإمعان في التفتت العربي وفقاً للهويات الدينية والقومية والعشائرية. مصير سيئ لبداية ثورية واعدة.