أم الشهيد أول من يعلم

27 يناير 2016

أم الشهيد (يوسف عبدلكي)

+ الخط -

بعد مرور سبع سنوات على استشهاد ابنها، والذي سقط في الأيام الأولى من عدوان 2008 على غزة، جلست تقلب ألبوم صوره بين يديها المرتجفتين، ففي كل صورة ذكرى، ومع كل ذكرى غصة وألم، وتنهدت وقالت: كنت أعرف أنه "مش ابن عيشة"، (عمره قصير). كنت أشعر، لكن شيئاً ما كان يلجم لساني، ولمن أحكي وأفضي، وأنا واثقة أن أحداً لن يقدّر إحساسي، وربما اتهمني بالوسوسة، وبأن عرضي على طبيب نفسيٍّ ضرورة لا محالة، فقبل أن ألده في بلاد الغربة بأيام، رأيت رؤيةً في منامي. رأيت كلمة مكتوبة بضوء مبهر، وبخط عربي منمق أمام عيني، واستيقظت سريعاً مع انطلاق أذان الفجر. كانت هذه الكلمة هي "المجد"، ففهمت أن ابني القادم لن يكون "ابن عيشة". إنه سيرتقي شهيداً. ولكن، كيف؟ لست أدري، حتى دارت بي السنون، وعدنا إلى غزة بعد غربة، وبدأت الحرب بمجرد عودتنا واستقرارنا، وارتقى ابني إلى المجد.

بعد استشهاد ثلاثة من أبنائها تباعاً، كانت تقول للجميع: لست حزينة، أنا فرحة أنني سأصبح خنساء غزة، فكانت تدور على بيوت ذوي الشهداء، لم تترك أماً ودعت ابنها شهيداً إلا وزارتها، وواستها وحضنتها، حتى مصمصت باقي المعزّيات شفاههن عجباً من قوتها وصلابتها، وتساءلن بداخلهن: هل اعتادت الفقدان، بعد سقوط أول أولادها شهيداً، أم أنها قوية إلى درجة الرعب، أو أنها فعلاً فرحة مستبشرة، ومستعدة لتقديم باقي أولادها شهداء كما تقول؟ لكن أحداً لم يكن ينام معها في غرفتها، حين تسكب دموعها على وسادتها، ولا أحد يعرف أنها كانت أول من يعلم، ففي كل مرة يخرج أحد أبنائها ليلاً، لكي يدبر كميناً للعدو على الحدود، تشعر بقبضة باردةٍ تعتصر قلبها، وتصبح واثقةً بعدها أنه الوداع الأخير، لكنها تشجعه وتدعو له، وتشيّعه بالأمنيات الطيبة. وكلما حاول الجيران والأحباب في الصباح إخفاء خبر سقوطه شهيداً، كانت تكتشف حيلتهم سريعاً، فقلبها قد أنبأها قبلهم، وتسجد لله شكراً، حتى ينفض الجمع فتبكي، وظلت تفعل ذلك، بعد سقوط الشهيد الثالث، حتى فقدت بصرها، ولم تعد ترى شيئاً حولها سوى أولادها الثلاثة، يقفون كل فجر أمامها، يبتسمون ويلوّحون بأيديهم، حتى لحقت بهم قبل أيام قليلة...

إبّان انتفاضة الحجارة، سافرت إلى الأردن، لكي تدعو أقاربها إلى حفل زفافه، وابتاعت ملابس زاهية لشقيقاته، وأخبرت الجميع أن بيت العريس أصبح جاهزاً على مشارف القرية، وحذرتهم من التأخير لحضور العرس، فالسفر من الأردن إلى الضفة الغربية، عبر جسر الملك حسين، لم يكن صعباً وقتها. وسبقتهم في العودة. ولكن، ولإحساس داخلي، اختارت ثوبها الذي سترتديه يوم عرسه أسود اللون. ولا تدري سبب نسيانها شراء الشمع المزركش من سوق مخيم الوحدات، لكن شيئاً بداخلها أنبأها أن العريس تعجل الزفاف، فعلى مشارف القرية كانت جنازته تسرع به إلى مثواه الأخير، فلم تبك، ولحقت به تزغرد وتغني، ورشّت العطر والحنّاء فوق قبره، وعادت لترتدي الثوب الأسود حتى آخر أيامها.

هي كانت عائدة لتوها من السوق، حين أخبروها، أمام باب بيتها، أن ولدها سقط شهيداً، فأسرعت إلى المشفى، بعد أن ألقت سلة خضارها في عرض الشارع، وتناثرت حبات الكوسا والباذنجان وداستها الأقدام. وأمام المشفى، كان محمولاً على الأكتاف، فأسرعت إلى أول بقالة صادفتها، وابتاعت بآخر قروشها علبة رخيصة من الحلوى، نثرتها فوق جثمانه، ووزّعت باقي حباتها على المارّة، وسارت مع المشيعين إلى قبره، تزغرد وتهلل، والشباب الغاضبون حولها ينشدون لها.

 لكن، بعد سنة من استشهاده، مرّت من أمام محل البقالة، فسألتها صاحبته العجوز: كيف طاوعك قلبك أن توزعي الحلوى يوم استشهاد ابنك؟ فأجابتها: كنت أشعر قبل ذلك بكثير أنه لن يتناول "محشي الكوسا والباذنجان" الذي ألح في اشتهائه. ولذلك، أنا متّ قبله أول مرة، ومت بعده ألف مرة. 

دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.