"داعش" في المنظور التركي

06 اغسطس 2015
+ الخط -
كانت تركيا مبكراً، ومنذ البداية، تعلم أي مصير قاتم سيخيم على المنطقة كلها، جراء السياسات الدولية المخاتلة، وغير البريئة، في التعاطي مع قضايا المنطقة من منظور براغماتي بحت. ولهذا، كانت تركيا واضحة منذ البداية في رؤيتها، لأسّ الأشكال وجذر المشكلة، ممثلة بالاستبداد الجاثم على شعوب المنطقة، فكانت رؤيتها، منذ البداية، للحل في سورية رحيل بشار الأسد.
ومن هذا المنظور، كانت كل السياسات التركية تجاه المنطقة واضحة، من حيث المبدأ، في سورية ومصر واليمن وليبيا وكل المنطقة، رحيل الاستبداد، فيما وقفت هنا شبه متفردة ووحيدة في موقفها تجاه الربيع العربي وثوراته التي كان ينظر لها الجميع، من دون استثناء، بريبة وتحيّن وترقّب، ما تجلى تالياً في كل من مصر واليمن وليبيا وسورية، وغيرها.
كانت تركيا مضطرة أن تظهر بهذا الموقف غير المحسود عليه وحيدة تجاه ملفات عديدة، وخصوصاً الملف السوري الذي يمثل عمقها الاستراتيجي. ولذا، انبرى هنا من يتهم تركيا بالوقوف وراء المنتج الأول للاستبداد والمخاتلة الدولية تجاه ثورات الربيع العربي، وهو داعش، وهذا نتاج طبيعي للسياسات الدولية أولاً، والنظم الاستبدادية ثانياً، والتعقيدات السياسية والثقافية في مجتمعاتنا العربية ثالثاً، وكل هذا كان في حسبان سياسة تركيا تجاه المنطقة العربية، منذ البداية، فكانت واضحة أن الحل في رحيل أنظمة الاستبداد ودعم تطلعات شعوب المنطقة نحو الديمقراطية، وكان هذا شعار تركيا الدائم وديدنها في كل المحافل الدولية.
لكن في الجانب الآخر، لكي نكون موضوعيين، لا ينبغي إغفال البعد الجيوسياسي من منظوره البراغماتي بالنسبة لتركيا، حيث أدركت أن ثمة أفخاخاً وعوائق كبيرة في طريق سياساتها المبدئية، عليها أن تتخطاها بذكاء وحذر، وهي العوائق والأفخاخ المنصوبة أمامها، وهي أيضاً جزء من تكوينات المشهد التركي الداخلي، تاريخياً وإثنياً وجغرافياً.
فكانت تدرك تركيا أن أهم التحديات أمامها هو الملف الكردي، والذي يمثل تحدياً كبيراً أمام الحكومات التركية المتعاقبة منذ أتاتورك، ولم يحصل فيه أي تقدم أو اختراق، باستثناء الاختراق الأخير الذي تمثل بعملية السلام الذي قادها حزب العدالة والتنمية الحاكم، والذي دفع ثمنها غالياً في العملية الانتخابية، أخيراً، التي أدت إلى تراجع مكانته الانتخابية المعتادة على مدى العشر سنوات الماضية.
ومن هذا المنطلق، كان الإدراك التركي لحلول الملف السوري، وكل ملفات المنطقة يكمن في دعم تطلعات هذه الشعوب نحو الديمقراطية، لأن الاستبداد ستكون نتائجه كارثية على المنطقة كلها، وما داعش وقبلها القاعدة إلا بعض تجليات وانعكاسات السياسات الغربية الداعمة للاستبداد وتسلط الأنظمة الحاكمة في المنطقة.

ولهذا، كان صانع القرار التركي ينظر إلى قضية داعش على أنها نتيجة، وليست سبباً، وبالتالي ينبغي لحل هذه الظاهرة الإشكالية أن يبدأ بمعالجة الأسباب، وليس النتائج، وهي القضاء على الأنظمة المستبدة التي أدت إلى وجود داعش وغيرها، لا الذهاب نحو النتائج، والانهماك في معاركها التي لن تجدي نفعاً، ما لم تعالج الأسباب الحقيقة للظاهرة، كالظلم والاستبداد. ولهذا رفضت تركيا، منذ البداية، الانضمام إلى التحالف الدولي لقتال داعش من هذا المنطلق، وليس من منطلق التفسيرات الغربية أن تركيا داعمة لداعش.
أعاد الهجوم على سروج التركية، أخيراً، أعلن تنظيم الدولة عن مسؤوليته عن تنفيذه، الكرة إلى المعلب التركي مجدداً. ولكن، من زاوية أخرى، كانت تركيا تأخذها في الحسبان، هي ملف حزب العمال الكردستاني الذي يعد من أخطر ملفات السياسة الداخلية التركية، وتعقيدات هذه الملف الذي بدأ خطره يظهر من جديد، بعد جهود كبيرة، بذلها حزب العدالة والتنمية، لإنجاح عملية السلام مع الأكراد.
حينما نجح حزب العدالة والتنمية في عملية السلام مع الأكراد، مثل هذا ضربة للقوى الدولية التي ترى أنه ليس من مصلحتها دخول تركيا مرحلة الاستقرار السياسي، وليس من مصلحة المنطقة كلها أيضاً، وهو البعد الذي ينظرون من خلاله إلى المنطقة كلها، أنها يجب أن تظل في مرحلة اللا استقرار. وهذا ما كانت تدركه تركيا منذ البداية. ولهذا احتفظت بأوراقها جيداً، فيما يتعلق بملف داعش الذي كانت تدرك أنه ملف خطير، لكن الأخطر منه غض الطرف عن أسبابه و تداعياته، وكان من تداعياته دخول المنطقة مرحلة جديدة من اللايقين، والفراغ الكبير الذي يدفع المنطقة نحو ما هو أكثر ضبابية وكارثية في آن.
من هذا المنطلق، كان الموقف التركي أكثر وضوحاً في التعبير عن قلقه من السياسات الدولية المريبة تجاه المنطقة وقضاياها، وأنه يجب أن تكون هناك رؤية واحدة ومبدئية لكل قضايا المنطقة، أي أن إرهاب داعش لا يختلف عن إرهاب نظام الأسد، و لا عن إرهاب البي كي كي، ولا عن إرهاب نوري المالكي، والجميع سواء في إرهابهم لا فرق.
هذا هو السر الذي دفع الأميركان إلى الخضوع للرؤية التركية فيما يتعلق بتصنيف "بي كي كي" منظمة إرهابية، وهو نفسه الموقف الأطلسي فيما يتعلق بهذا الحزب أيضاً، باستثناء موقف ألمانياً الأكثر مخاتلة تجاه ملفه وبعض الدول الأوروبية التي تريد التفريق بين داعش و"بي كي كي" من منظورها الخاص، لا من منظور موضوعي.
تجلى هذا الانكشاف لسياسات القوى الدولية، بشكل كبير فيما يتعلق بملف اللاجئين السوريين الذين تتحمل تركيا وحيدةً تبعاته، فيما يتفرج الجميع من بعيد بتقديم نصائح لا تسمن ولا تغني من جوع. ومن هذا المنطلق، كان الدافع التركي فيما يتعلق بالمطالبة بفرض منطقة عازلة داخل الأراضي السورية للاجئين السوريين للتخفيف من كلفة هذا الملف أمنياً عليها، وأعتقد أن هذه الفكرة التي واجهها الغرب، بنوع من المماطلة والكذب أحياناً، أصبحت، الآن، أكثر جدوى في ظل الانهيارات الأمنية للمنطقة، والتي قطعاً لن تكون مصالح الغرب بمنأى عن تداعياتها.









نبيل البكيري
نبيل البكيري
كاتب وباحث يمني مهتم بقضايا الفكر والفلسفة والاجتماع والتاريخ والسياسة.