العرب والمستقبل المناخي المهول

29 اغسطس 2015
+ الخط -
بحسب تقرير صدر حديثاً عن المعهد المركزي لدراسات المناخ، وهو منظمة علمية بحثية مستقلة، استناداً على منظومة التحليل العالمي للمحيطات، للعالم مارك ماريمفيلد من جامعة هاواي، وبحسب بحث علمي كبير، قام به تسعة من أهم علماء الدراسات المناخية على وجه البسيطة، ونشرته مجلة العلوم الصادر في يوليو/تموز الماضي، فإن كارثة الاحتباس الحراري الناجمة عن انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان، في سياق عمليات استخراج واستخدام الوقود الأحفوري بأشكاله المختلفة، سوف تقود إلى خسارة 1.14 مليون كيلومتر مربع من مساحة الأرض، حين تغمرها مياه المحيطات، جراء ارتفاع منسوب مياه البحر الناجم عن ذوبان الجليد في القطب الشمالي. ويسكن تلك المناطق التي سوف تغمرها مياه البحر على المستوى العالمي، حالياً، أكثر من 375 مليون إنسان، قد يصبحون أكثر من نصف مليار في نهاية القرن الحالي. وفي الفضاء الجغرافي العربي، سوف تمثل كارثية بيئية، تشمل مناطق واسعة من دلتا النيل، والتي يقطنها حالياً 12 مليون مواطن مصري، بالإضافة إلى مناطق شاسعة من العراق والكويت وليبيا واحتمالات كارثية، لاندثار مدينة أبو ظبي في العام 2100.
هي كارثة بيئية محدقة، تم التوثق العلمي منها، بدراسة تغيرات جيولوجيا الأرض عبر أربعمئة ألف سنة، والتي وضحت أن ازدياد درجة حرارة الأرض إلى ما يعادل مستواها الحالي منذ 125 ألف سنة مضت، أدى إلى ارتفاع تدريجي لمنسوب مياه البحر إلى 6-9 أمتار. كما بينت نتائج الأبحاث الجيولوجية بأن ارتفاعاً بحدود درجتين مئويتين لمعدل حرارة كوكب الأرض راهناً عما كان عليه، قبل الثورة الصناعية التي قامت على استثمار الوقود الأحفوري، أدى، منذ أربعمئة ألف سنة مضت، إلى ارتفاع بحوالي 6- 13 متراً عما هو عليه ارتفاع منسوب البحر حالياً. وفي السياق نفسه، توضح أبحاث المركز الوطني لأبحاث المحيطات والغلاف الجوي أن مستويات غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي في نهاية العام 2013 بلغت 396 جزءاً بالمليون من تركيب الغلاف الجوي، وأن معدل ازديادها المضطرد حالياً سوف يقودها خلال 60 سنة تقريباً إلى أن تصل إلى 500 جزء بالمليون، وهو ضعف ما كان التركيز عليه قبل الثورة الصناعية، وهو الذي سوف يقتضي، باتفاق شبه مطلق بين كل الهيئات والتجمعات البحثية الآنفة الذكر، أن يقود إلى زيادة درجة حرارة كوكب الأرض، بمعدل 1.5-4.5 درجات مئوية، وهو ما سوف يؤدي، في الحد الأدنى، بعد نصف قرن، إلى ارتفاع منسوب مياه البحر بما لا يقل عن 6 أمتار إلى 15 متراً.
وفي تقرير بحثي موسع، حمل اسم حالة المناخ في العام 2014، وهو نتاج بحثي موسع قام به 413 عالماً من 58 دولة، تم تبسيط توصيف كارثة الاحتباس الحراري، أو التي تسمى ظاهرة البيت الزجاجي، بأن انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون التي يتم إطلاقها في الغلاف الجوي للأرض، جراء عمليات حرق الوقود الأحفوري، بأشكاله المختلفة (نفط، غاز البوتان، غاز الميثان، الفحم الحجري، النفط الصخري،... إلخ) لا يمكن لها عبور الغلاف الجوي إلى الفضاء الخارجي، وإنما تبقى في الطبقات العليا للغلاف الجوي، لتعمل حاجز صد يمنع خسارة الغلاف الجوي للحرارة التي يمتصها من أشعة الشمس في منطقة تماسه مع الفضاء الخارجي، ما يؤدي إلى زيادة الحرارة في الغلاف الجوي، وامتصاص لاحق من المحيطات لتلك الحرارة، والذي يقود إلى ذوبان جبال الجليد العملاقة في القطب الشمالي، مؤدياً إلى ارتفاع منسوب مياه البحر في حلقة مفرغة، تقود نتائجها حتمياً إلى تفاقم أسبابها.
معلومات يحق لكل قارئ عربي أن يعتقد بثانويتها، وعدم راهنيتها في معاناته اليومية مع القهر، والاستبداد، والإفقار، والتهميش، وهذا حق منطقي للوهلة الأولى فقط؛ حيث إن الكارثة المناخية متعددة الأقطاب ومتداخلة المفاعيل على حياة الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج. إنها تعني، وخلال نصف قرن، وبشكل واقعي، يستند إلى أبحاث علمية رصينة، أن حياة عشرات الملايين من أبناء العرب سوف تكون مهددة، ليس في غمر مساكنها بمياه البحر، بالشكل التراجيدي المستبصر علمياً وحسب في دلتا النيل، وأهوار البصرة، والكويت، والساحل الليبي، وأبوظبي ... إلخ، وإنما تعني، فيما تعني، زيادة معدل التبخر المائي من سطح الأرض، جراء ارتفاع الحرارة المضطرد، والذي سوف يسهم في تعزيز صعوبات ري المحاصيل الزراعية في المنطقة العربية، بالتوازي مع كارثة خسارة الملايين من الهكتارات المناط بها تأمين كفاية الحد الأدنى من الأمن الغذائي الهش للملايين من العرب، ما سوف يعني كارثة غذائية بالمعنى المباشر للكلمة، قد تفصح عن نفسها بمجاعات تنتظر أوانها لافتراس الملايين من مفقري الشعوب العربية.

وهي أيضاً كارثة مائية في سياق تفاعل إرهاصات زيادة معدل التبخر المائي من قشرة الأرض الناجم عن ارتفاع معدل حرارة الأرض، بالتوازي مع زيادة العدد السكاني المضطرد في المنطقة العربية، واحتمالات خسارة مساحات واسعة من الأراضي الصالحة للزراعة، حينما تغمرها مياه البحر، كما يحدث راهناً في أهوار البصرة، ما سوف يقتضي تحقق نظرية احتمالات أن تكون حروب المياه الشرط الحتمي من النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين، لتُفتح الأبواب على حروب إقليمية بين الدول العربية العطشى وجيرانها الذين لن يكونوا في حال أحسن منها كثيراً، في ضوء الكارثة البيئية الكونية الكليانية، في صراع مهول للسيطرة على منابع الأنهار التي تمر فيها، والتي لن تعود الحصة التي تحصل عليها راهناً أي دولة متشاطئة من تلك الأنهار كافية، بأي شكل، لتلبية احتياجات درء الجوع الكافر الذي لن يبقي للدبلوماسية السياسية مكاناً، إذا كان التاريخ محقاً في سرده لمنهجية السياسات الوحشية المنبثقة من المجاعات.
وهي كارثة جغرافية اقتصادية مزدوجة، تحمل في طياتها مخاطر تفاقم زحف التصحر على المناطق الحضرية التي لن تستطيع في المستقبل هدر أي قطرة ماء لإرواء حزاماتها الخضراء المهلهلة، وأشجارها المنهكة من عطشها المزمن لدرء غيلان التصحر المتربصة بها، وحيث سوف يقود ازدياد معدل التبخر من سطح اليابسة الناجم عن ارتفاع درجات الحرارة كونياً إلى تكسر قشرة التربة الكلسية الهشة في بوادي كثيرة، تقوم عليها حواضر عربية كثيرة، لتصبح بذاتها رمالاً تستعد لاستقبال رمال جديدة عليها من كثبان الصحراء التي تنتظر الأوان الملائم للانقضاض على حواضر عربية كثيرة، وخصوصاً في دول الخليج العربي. ويفصح عن نفسه البعد الاقتصادي لتلك الكارثة الجغرافية الاقتصادية، باضطرار تلك الدول العربية إلى تخفيف صدمة الكارثة الجغرافية بزيادة الإنفاق مما راكمته من ثروات متواضعة بالقياس العالمي، والتي يشترط بأنها حق للأجيال المقبلة، تستطيع استثماره في أنشطة تقي من شر التفتت الوطني في المستقبل، عقب نفاد مصادر الاقتصادات الريعية، القائمة بشكل شبه مطلق على استخراج النفط والغاز في تلك الدول، وهو ما سوف ينعكس في تفاقم مهول لما ظهرت بواكيره فعلياً في عجز ميزان المدفوعات في أكثر من دولة خليجية، والذي قد يؤدي إلى ترك الأجيال المقبلة خاوية الوفاض والجيوب، حينما تطل الكارثة البيئية بوجهها الأكثر توحشاً خلال نصف قرن.
نعم، إنها كارثة بيئية، غذائية، مائية، اقتصادية، جغرافية، مركبة، لا يمكن للشعوب العربية الإجابة عنها، في ضوء غياب كل مقومات المجتمع المدني القادر على تحقيق إرادة الشعوب، قليلاً أو كثيراً، من دون أن يكون وكيلها الافتراضي سجانها وجلادها في آن معاً. وحقاً إنها كارثة مهولة، لا خيار للأجيال العربية في اعتبار مواجهتها جزءاً عضوياً من واجبها الملح في إحياء حقها الطبيعي في الانعتاق من مستبديها، وتوطيد مجتمعاتها المدنية الحرة القادرة على التفكر، والاجتهاد، والعمل الفاعل للتعامل مع أسباب الكارثة البيئية المحدقة ومفاعيلها، بدلاً من القعود وانتظار حلولها المنفلت من كل عقال خلال نصف قرن، والتي تعرّف عن نفسها، بشكل تراجيدي مكثف، بأنها وأد لمستقبل للأجيال العربية المقبلة، وحقها البديهي في الحياة.

3F551E00-D2AC-4597-B86B-AF0030A9D18D
مصعب قاسم عزاوي

كاتب وطبيب سوري مقيم في لندن، له عدد من المؤلفات