الحرية ومحاربة الاٍرهاب

19 اغسطس 2015
+ الخط -
شهدت ألمانيا، الأسبوع الماضي، التي تعيش، منذ أسابيع، على وقع معركة كبيرة حول حرية الصحافة والحق في الوصول إلى المعلومات، والموازنة بين محاربة الإرهاب والدفاع عن قيم الحرية وحماية الخصوصية، يوماً صاخباً.
رفعت، في أبريل/نيسان الماضي، وكالة المخابرات الألمانية (تسمى مكتب حماية الدستور) دعوى قضائية ضد الموقع الإخباري "نيتسبوليتك"، والتهمة نشر معلومات سرية عن برنامج جديد للمخابرات يرمي إلى تشديد المراقبة على الاتصالات في الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، بغرض مراقبة المتطرفين والمحتويات الجهادية التي تضر بالأمن القومي الألماني. واعتبرت وكالة المخابرات نشر الموقع هذه الخطة وأرقام الميزانية التي طلبتها المخابرات من الحكومة يهدد أمن الدولة وسلامتها، ومن ثم فإن هذه الجريمة تدخل تحت بند خيانة الدولة.
تلقى المدعي العام الاتحادي، هارد رانجه، الشكاية وفحصها، وقرر متابعة مدير الموقع والصحافي الذي أنجز التحقيق، بتهمة خيانة الدولة. هنا، قامت القيامة، ووقفت جل وسائل الإعلام في وجه قرار النائب العام، واعتبر الصحافيون، من اليمين واليسار، أن كل تراث حرية الصحافة في ألمانيا في خطر، وأن المدعي العام يريد حرمان الألمان من حق الوصول إلى المعلومات التي تهم بلدهم وحريتهم، وأن البلاد تعيش نكبة لا مثيل لها.
لم يبق الخلاف بين النائب العام الاتحادي والصحافة محصوراً في وسائل الإعلام، بل نزل المتظاهرون إلى الشارع يضغطون على الحكومة ووزارة العدل والقاضي، ورفع آلاف المشاركين في المسيرة لافتات كتب على بعضها: "لا ديمقراطية بدون حرية للصحافة"، و"ماركوس وبيكدال (مدير الموقع والصحافي) غيرا حياتنا".
وقع وزير العدل، المسؤول في ألمانيا عن السياسة الجنائية، في ورطة، فتحرك بسرعة، وطلب من المدعي العام إغلاق التحقيق مؤقتاً، وإحالة الموضوع إلى مختص محايد لمعرفة ما إذا كان نشر تحقيق عن أسرار المخابرات يعتبر خيانة للدولة، وقال الوزير، في محاولة لتخفيف حدة التوتر والدفاع عن سمعة الحكومة: "لا أعتقد أن موقع نيتسبوليتك والصحافيين العاملين فيه كانوا يقصدون خيانة الوطن، أو المس بأمنه القومي، عندما نشروا وثائق الخطة الأمنية الجديدة لمراقبة محتويات النت، ثم إن تشريعاتنا المتعلقة بحماية أسرار الدولة ربما تحتاج إلى مراجعة للحفاظ على تراث حرية الصحافة والحق في الوصول إلى المعلومات في بلد ديمقراطي".
وجد المدعي العام نفسه في ورطة، فخرج في وسائل الإعلام للدفاع عن نفسه، وعن قرار متابعة الموقع الصحافي، واتهم وزير العدل بممارسة ضغوط سياسية عليه لإغلاق التحقيق. لم يتأخر رد وزير العدل، حيث أقال المدعي العام المتمرد، وعين قائما بأعماله إلى حين اختيار مدعٍ عام جديد، لأن السياسة الجنائية في ألمانيا لا يمكن أن تدار برأسين وبتوجهين، ثم إن وزير العدل وحكومته هما من سيدفع الثمن السياسي لمتابعة صحافيين بتهمة الخيانة، وهي تهمة لم تتحرك في ألمانيا منذ 50 عاماً، والألمان مصابون بحساسية مفرطة إزاء تجاوز المخابرات مجال عملها، أو اعتدائها على حرية الصحافة، أو خصوصيات المواطنين تحت أي مبرر، ويذكّرهم هذا كله بجرائم الغيستابو على العهد النازي.
ذهب المعارضون لقرار متابعة الصحفيين الألمانيين أبعد من انتقاد متابعة الصحافة بتهمة الخيانة، بل شككوا في قانونية تجسس المخابرات الألمانية على المشتبه في أنهم متطرفون أو مشاريع إرهابيين، ومبررهم أن المحكمة الأوروبية العليا قضت بأن مراقبة الاتصالات، بهدف ملاحقة المتشددين المشتبه بهم، انتهاك للحق في الخصوصية، وأن مجرد الاشتباه في أن مواطناً يحمل فكراً متشددا أو متطرفاً لا يبرر التجسس على اتصالاته ومكالماته ورسائله.
عندما نقارن هذه النازلة الألمانية مع قانون الاٍرهاب الذي وقعه عبد الفتاح السيسي، قبل يومين، والذي يمنع الصحافة المصرية من إعطاء أي خبر عن الوضع الأمني أو العسكري خارج ما تدلي به مصالح الداخلية والجيش، نسأل: هل نحن نعيش في عالم واحد؟
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.