النزاع على القضاء التونسي

02 يونيو 2015

اعتصام أمام مقر المجلس الأعلى للقضاء في تونس(27إبريل/2012/Getty)

+ الخط -
اندلاع معركة حامية الوطيس على القضاء التونسي، ومن أجله، عشية مناقشة القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء، والمصادقة عليه من مجلس نواب الشعب يوم 15 مايو/أيار المنقضي، هو استمرار لنزاع قديم، جوهره الهيمنة على الدولة، والسيطرة على مؤسساتها وأجهزتها، وعلى نظام الحكم من البوابة القضائية. 
ومن غير المبالغة القول إن التاريخ السياسي التونسي المعاصر هو تاريخ الصراعات والمحاكمات السياسية، واستعمال القضاء والقضاة في تحجيم الخصوم السياسيين وقمعهم وسجنهم وتفكيك تنظيماتهم وأحزابهم والقضاء عليهم، وحتى نفيهم من الوجود والحياة ككل.
ولم ينج من تلك المحاكمات نُخب الرأي والمواقف والمدافعون عن حرية الصحافة والفكر والتعبير والتجمّع والتنظيم. وبذلك، يكون للقضاء دور مركزي في تثبيت سلطان فريق يحكم والإجهاز على آخرين، كانوا ينوون أو يعملون على الإحلال محلّه، فرادى كانوا أو مجتمعين.
وهذا التاريخ حافل وموشّح صدره بالمحاكم الاستثنائية، على شاكلة محكمة القضاء العليا التي كانت تعرف باسم المحكمة الشعبية التي أحدثت في 19 إبريل/نيسان سنة 1956، للنظر في القضايا السياسية، على أن يدوم عملها ستة أشهر، فاستمرت ثلاث سنوات، فككت في أثنائها ما تبقى من النظام الحسيني الذي حكم تونس قرنين ونصف القرن، وأنهت دور الحركة اليوسفية الشريك في الحركة الوطنية وغريم بورقيبة ومنافسه الرئيسي على الحكم.
 
وكذلك محكمة أمن الدولة المحدثة في 2 يوليو/تموز 1968، للنظر في الجنايات والجنح المرتكبة ضدّ أمن الدولة الداخلي والخارجي التي تواصل عملها إلى سنة 1987، وهي مختصة في القضايا السياسية وقضايا الرأي، لتحال تلك القضايا التي كانت تدخل في نطاق اختصاصها بعد ذلك إلى محاكم الحق العام، في محاولة للتخفيف من صداها الإعلامي ووقعها السياسي في المستويين الوطني والدولي.
ولم تشذّ عن هذه الصبغة الاستثنائية المحاكم العسكرية التي كانت ملاذا للسلطة السياسية في التخلص من كبار معارضيها ومناوئيها، لا سيما من التجأ منهم إلى العمل العسكري والعنف السياسي.
ولم يستطع أي من التيارات والأحزاب السياسية الكبرى التي شكّلها القوميون العروبيون والبعثيون أو اليساريون الماركسيون، أو المتدينون الإسلاميون، وكذلك النشطون النقابيون والطلّاب وبعض رجالات النظامين السابقين في عهدي الرئيسين السابقين، الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، الذين شقوا عصا الطاعة، أن يفلتوا من المحاكمات الاستثنائية الجائرة التي انتهت ببعضهم إلى الإعدامات، وبآخرين إلى السجون والمعتقلات والأشغال الشاقة والإقامة الجبرية والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية، ناهيك عمّا مورس ضدّ بعضهم من تنكيل وتعذيب، وصل إلى حدّ القتل، وهم تحت طائلة أنظار الهياكل القضائية.
وعندما نسترجع هذا التاريخ، ولو بصفة موجزة، نقف عند العوامل الخفية التي جعلت من مناقشة قانون أساسي من قوانين الدولة التونسية تستحيل معركةً وخصومة كبرى، تستلّ فيها السيوف، وتصل فيها احتجاجات السادة القضاة إلى أوجها، بإعلانهم تعليق العمل في المحاكم التونسية خمسة أيام متتالية، متزامنة مع الأسبوع الذي شهد المناقشة، وتنظيم وقفة احتجاجية أمام مقرّ السلطة التشريعية، تنبيهاً لها وتحذيرا، والتهديد بالطعن في دستورية القانون المذكور لدى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، إن حظي بموافقة النواب، وقد حظي بذلك، قبل إسقاطه عبر مقاطعة تنفيذه وتعطيل انتخابات هياكله، الممثلة في المجلس الأعلى للقضاء المزمع إحداثه.
وهذا النوع من ردّة الفعل يعدّ فريداً بأن تتصدى سلطة غير منتخبة لممثلي الشعب، وهو سابقة في العمل النقابي بأن يُضرب قطاع مهني عن العمل طوال تلك المدّة، ناهيك أن يكون ذلك من القضاة الذين يشكّلون مرفقا حيويا في الدولة، وسلطة قائمة بذاتها، مهما كانت محدوديتها اليوم.
ولقد وجدت وسائل الإعلام في المعركة على القضاء مادة إخبارية وحوارية متميزة، ومنبعا لاسترجاع الأفكار المدرسية الحقوقية الأولية في الفصل بين السلطات، ونجحت في توسيع دائرتها، وتقديمها إلى الرأي العام والمجتمع المدني والسياسي ومختلف الفاعلين المنحازين إلى أحد طرفي تلك المعركة، ظاهريا على الأقل، وهما القضاة الذين ينزعون نحو تحقيق حلم قديم في إنشاء سلطة قضائية مستقلّة، والكتل النيابية للأحزاب الكبرى، الملتقية في أغلبها في الائتلاف الحكومي المجسّد للسلطة التنفيذية التي نزعت، حسب وجهة نظر الطرف القضائي، إلى إفراغ سلطتهم من استقلاليتها والحفاظ على القضاء مرفقاً من مرافق الدولة لا أكثر، ولو تحت لافتة سلطة قضائية مستقلة، يجسدها المجلس الأعلى للقضاء.
إن حجّة القضاة في منزعهم جعل القضاء سلطة مستقلة هي مقتضيات الديمقراطية نفسها وضرورة الاستجابة لشروطها، والالتزام بما جاء في الدستور التونسي لسنة 2014 الذي يقرّ في فصله عدد 102 أن "القضاء سلطة مستقلّة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات. القاضي مستقلّ لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون".
وهذه السلطة القضائية المستقلة يجسدها المجلس الأعلى للقضاء الذي يضمن، حسب الفصل 114 من الدستور نفسه، "حسن سير القضاء واحترامه واستقلاله".
ومن ثمة يرى القضاة وهياكلهم النقابية والمدنية أن مشروع القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء، سواء في نسخته التي تقدمت بها الحكومة إلى مجلس نواب الشعب، أو في النسخة التي توصلت إليها لجنة التشريع العام في المجلس، وتمت مناقشتها في الجلسة العامة، لا يستجيب للدستور، بل ويناقضه، لا سيما لما يتحول المجلس الأعلى للقضاء إلى مجرد منشأة تشرف إدارياً على شؤون القضاة، فاقدة وظيفتي التفقد والإشراف على المعهد الأعلى للقضاء، اللذين تحافظ السلطة التنفيذية على توليهما، علاوة على تسييرها النيابة العمومية التي كان القضاة يطالبون بحيادها إبّان حكم الترويكا.
وتستند محاجّتهم إلى الدور التاريخي الذي لعبته جمعية القضاة التونسيين ضدّ تدخل نظام بن علي في الشأن القضائي، ونضالها من أجل تحقيق استقلاله، والضريبة الغالية التي دفعها أعضاء تلك الجمعية، من نُقل تعسّفية ومتابعات أمنية، وتجميد في الخطط القضائية وحرمان من الأجور والمرتبات والحوافز المالية، طالت أعضاءها.
وقد بلغ الأمر حدّ حلّ مكتبها الشرعي، وتنصيب مكتب صوري موال لنظام الحكم النوفمبري، لكتم صوتها، ودفن مطالبها الداعية إلى احترام القضاة والقضاء، وإخضاعه للمعايير الدولية، بما في ذلك استقلال القضاء.
المقاربة الأخرى للشأن القضائي، والتي أقرّها مجلس نواب الشعب، هي نتاج لموازين القوى السياسية داخل الهياكل النيابية، فالمعلوم أن عضوية القوى السياسية وكتلها داخل تلك الهياكل تنصاع لقانون النسبية في التمثيلية، بما يعني أن لجنة التشريع العام، كما غيرها من اللجان، تخضع لهيمنة الحزبين الكبيرين الفائزين في انتخابات 26 أكتوبر/تشرين أول 2014.
وإن الصياغة النهائية لمختلف القوانين، بما في ذلك الأساسية منها، لا يمكن إقرارها، إلا بعد موافقة وتوافق كل من "نداء تونس"، الحزب الأغلبي في المجلس وحركة النهضة الموالية له في الترتيب، مع إمكانية الأخذ بالاعتبار حليفيهما في الحكم كل من الاتحاد الوطني الحر وآفاق تونس، ويبدو أن الأخير خرج عن السرب الحكومي هذه المرّة، واصطف مع معارضي القانون والمتحفظّين عليه.
المسكوت عنه في خطاب الكتلتين الكبيرتين في أثناء مناقشات لجنة التشريع العام، أو في أثناء الجلسة العامة، هو الخشية من تغوّل القضاء وبناء "جمهورية القضاة"، وفق الإيتيمولوجيا المتداولة في كواليس المجلس.
وكثيراً ما تتم المقارنة مع القضاء الإيطالي، خصوصاً بعد أن سيطرت عليه المافيا، وحوّلته إلى أداة تضرب به من تشاء، وتحقق عبره ما تشتهيه من المنافع العينية والرمزية.
وهذه "الجمهورية القضائية"، وفق الخلفية المشار إليها، إن تمكّن أصحابها من مبتغاهم، ستكون بمثابة الميتا-سلطة التي لا يمكن لأي كان أن يرتقي إلى عليائها ومراقبتها، أو محاسبتها، باعتبارها ستكون فوق السلطات جميعاً
ولا تخضع هذه النتيجة التي انعكست في نص القانون للخلفية والتمثل نفسيهما، فإذا كان الحزب الأغلبي، أو بعض منه، لا يزال يحنّ إلى قضاء موجه، كما كان في زمن استبداد السلالة الدستورية – التجمعية، لتحقيق المآرب والمنافع بأيادي القضاة، أو هو يثأر، بشكل أو بآخر، من الجمعية التي عصت أمر تلك السلالة في أوج قوتها، فإن الحزب الأغلبي الثاني في المجلس لم ينس آلامه وجراحاته من المحاكمات الجائرة والأحكام التعسفية التي تعرّض لها أنصاره وقياداته، إبّان حكم السلالة نفسها في زمن كان على القضاة، وهم حماة الحق والقانون والحرية، أن يقفوا موقفا مغايرا لخيارات السلطة السياسية والتنفيذية.

عوامل أخرى خفية هندست مورفولوجيا القانون محل النزاع، من أبرزها الصراع الذي لا ينتهي بين طرفي العدالة التونسية، هما القضاة والمحامون، فهذا الصراع لم يكن يوماً علنيا في أروقة المحاكم وعلى أعمدة الصحف وفي البلاتوهات التلفزية، كما هو اليوم.
ولقد انعكست تلك الصراعات على القانون المذكور، خصوصاً لمّا نعلم أن لجنة التشريع العام التي أعدّت النص هي، في غالبيتها، من السادة المحامين، بما يرمز بالتصريح أو بالتلميح إلى أن سلطة القضاة في المحاكم ستتحكم فيها إرادة المحامين عبر مجلس نواب الشعب، علما أن القانون الانتخابي والنظام الداخلي للمجلس لا يمنعان المحامين من مزاولة نشاطهم المهني في أثناء فترتهم النيابية، وفق قاعدة "تضارب المصالح".
ومن العوامل التي حكمت مناقشات القانون الخوف من رجوع الديكتاتورية والاستبداد الذي ستكون نتيجته الحتمية محاكمات سياسية وأحكام تعسفية، يرى بعضهم في بوادرها الأولى تتجلى في عودة التعذيب في المراكز الأمنية، وفي قمع الحركات الاحتجاجية والاجتماعية المطلبية التي يحال ناشطوها، من حين إلى آخر، إلى أنظار القضاء، في ظل نظام ديمقراطي، يتسم بالرخاوة والهشاشة.
فالقضاء، إذن، لا يزال يشكّل رهانا لدى بعضهم، إذ يمكن أن يكون وسيلة لإقامة العدل، كما يمكن أن يعتمد بالنسبة لآخرين كعصا غليظة في القمع والاعتداء على الحريات وسلب الحقوق. وسيكون دوره محددا وجوهريا في معالجة إشكالات مجتمعية رئيسية، مثل مقاومة الإرهاب والفساد والرشوة وتجاوزات السلطة. وترتبط بهذه القضايا شبكات جريمة دولية ومحلية جهنمية مستعصية وصعبة المراس، وتتمتع بوسائل وبقدرات هائلة مالية وسلطوية وفي مستوى النفوذ، ويمكن أن يبلغ الأمر حدّ تدخل دولٍ بأكملها، أو شركات كبرى عابرة للمجتمعات، في قضايا حيوية، تمس من قريب أو من بعيد سيادة الدولة وقرارها الوطني ومستقبلها.
معركة القضاء، في نهاية الأمر، هي معركة مجتمعية، وليست بأي حال نزاعا قطاعيا، ويستوجب هذا الأمر دعم الاتجاه الداعي إلى التأسيس لسلطة قضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية، لا شك أنها ستحقق استقلاليتها الكاملة عبر الزمن، تحت الرقابة الشعبية التي يجسدها مجلس نواب الشعب الذي يتحتم عليه إعادة مراجعة ذلك القانون، في حال إرجاعه إلى المجلس، من الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، أو في حال رفض رئيس الدولة إمضاءه، وتطعيمه بفصول جديدة، تضمن عمليا تلك الرقابة والاستقلالية.