السرايا.. من دفاتر المقاومة الفلسطينية

24 فبراير 2015

عمل لـ(ديميتري دوغلاسوف)

+ الخط -

في 14 فبراير/شباط 1988، كانت جزيرة قبرص مشغولة بعيدين، العيد الوطني وعيد الحب. وفي غمرة الهدوء القاتل الذي ساد الجزيرة، كانت مجموعات من الموساد الصهيوني قد وصلت إليها، لتفجير سفينة العودة قبل إبحارها من ميناء ليماسول باتجاه الساحل الفلسطيني، على متنها عشراتُ المبعدين الفلسطينيين، ومتضامنون معهم.

فجأة، رن الهاتف في مقر رئيس الوزراء الصهيوني، إسحق شامير، طلب رئيس الموساد الإذن بتغيير الهدف، إذ تم رصد وجود أبو حسن قاسم (محمد بحيص) وحمدي (باسم التميمي) في ضيافة مروان كيالي. قبل أشهر، تم إحباط أول عملية استشهادية فلسطينية، استهدفت مقر شامير نفسه قبل تنفيذها بساعات. ومن يومها، تقدم حمدي وأبو حسن لائحة المطلوبين عند الموساد، وصاروا الرقم 1. لم يتردد رئيس الوزراء في إعطاء موافقته الفورية، فثمة ثأر شخصي، أما سفينة العودة فيمكن اعتراضها على طول الطريق بين ليماسول وحيفا. وتراخي السلطات القبرصية مكّن وحدات الموساد من تحقيق الهدفين.

انتمى الشهداء الثلاثة إلى تيار يساري في حركة فتح، استلهم التجربتين، الصينية والفيتنامية، في أدبياته وممارسته العملية، مما دفع خصومه إلى اتهامه بالماوية. نشط هذا التيار في الحرب الأهلية اللبنانية، وخاض معارك مهمة ضد العدو الصهيوني في بنت جبيل ومارون الراس (1978) وقلعة الشقيف (1982)، ونفذ عدة عمليات أساسية في الأرض المحتلة، مثل عملية الدبويا في الخليل، وأرسل دوريات مقاتلة عديدة إلى داخل الأرض المحتلة.

بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، أعاد هؤلاء الإخوة اكتشاف المخزون الثوري الكامن في الإسلام. سعى هذا التيار إلى تحقيق مفهوم أوسع جبهة وطنية متحدة، وتغليب التناقض الرئيسي على التناقضات الثانوية. وإثر خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، عمل بجد لنقل نشاطاته إلى داخل الأرض المحتلة، ساعياً إلى تحقيق أوسع مشاركة وطنية في مقاومة الاحتلال.

بعد حرب 1967، سعت مختلف التيارات السياسية العربية العاملة على الساحة الفلسطينية إلى تشكيل فصائل فدائية مرتبطة بها. التيارات الإسلامية لم تفعل ذلك، واستمرت في نشاطاتها الدعوية والاجتماعية. حينها، اتفق "الإخوان المسلمون" مع حركة فتح على إنشاء قواعد مقاتلة في شمال ووسط الأردن، تضم العناصر الإسلامية الراغبة في المشاركة بالعمل الفدائي، تحت القيادة العسكرية والإدارية لحركة فتح.

حاول الشهداء استلهام تجربة قواعد الشيوخ السابقة. ومنذ 1983، بدأت فكرة سرايا الجهاد في فلسطين في التبلور، بمساهمة بارزة من شخصيات وجماعات إسلامية. وكانت إطاراً جهادياً مفتوحاً لكل من يريد أن يساهم في قتال العدو الصهيوني. بدأت عملياتها في التصاعد ضد المحتل، حيث وفر الإخوة التدريب والتسليح وبناء الكادر والتخطيط لكل من رغب في المساهمة في هذا الجهد، بحيث أصبحت سرايا الجهاد، الحكاية المنسية الآن، عنواناً للجهاد في فلسطين في تلك المرحلة، وشملت تدريب عناصر أولى في حماس والجهاد، ومتابعة النشاطات الجهادية في الداخل، بما فيها الاتصال مع مجموعة الشهيد مصباح الصوري، الهاربة من سجن غزة، وتسليحها ومتابعتها. تلك المجموعة التي كان استشهادها أحد شرارات الانتفاضة الأولى، إضافة إلى عمليات ذات طابع نوعي، وأدت إلى احتلال الشهداء الرقم واحد على لائحة القتل الصهيونية.

كانت إحدى تلك العمليات (10-1986) استهداف حفل تخريج ضباط صف لواء جفعاتي، واعتادت وحدات النخبة في الجيش الصهيوني إقامته أمام حائط البراق في القدس. حيث ألقى عبد الناصر وطارق الحليسي وإبراهيم عليان قنابل يدوية من فوق أسوار القدس، واعترف العدو بأكثر من 80 إصابة. يومها، كان الأخ رمضان شلح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي حالياً، مقيماً في بريطانيا، وكان عليه أسبوعيا أن يقود سيارته أكثر من 80 كيلومترا باتجاه صندوق هاتف في أحد ضواحي لندن، ليستلم إشارة بأن موعد العملية أزف، خصوصا أن الجيش الصهيوني لم يكن يُعلم منتسبيه بموعد الحفل إلا قبل ثلاثة أيام.

في محاولة نسف مقر رئاسة الحكومة الإسرائيلي (8-1987) أكثر من قصة تحكى وسر يكشف. فقد كانت تلك أول عملية استشهادية في فلسطين، توجب فيها على الأخت، عطاف عليان، قيادة سيارة مليئة بالمتفجرات، وهي ترتدي لباس مجندة في الجيش الإسرائيلي. كانت تلك العملية في غاية التعقيد، واستغرق الإعداد لها أكثر من سنتين. طلبت عطاف، وهي ملتزمة دينياً، فتوى شرعية، تبيح لها ارتداء الملابس القصيرة للمجندات الإسرائيليات، وتم الحصول عليها من أحد كبار علماء الشريعة المناصرين لفكرة السرايا.

لم تكن لدى الإخوة خبرة كافية في تجهيز السيارات المفخخة. لذا، تم إيفاد المهندس، سليمان الزهيري، الذي أوكلت إليه مهمة تجهيز السيارة إلى باكستان، حيث استقبله الشيخ عبد الله عزام، والذي كان أحد قادة قواعد الشيوخ في نهاية الستينيات. والمرجح أن اغتيال عزام، لاحقاً، كان بسبب علاقته بهذا العمل الذي اكتشف لاحقاً. وكان مقررا للعملية أن تنفذ قبل شهر من اكتشافها. أجّل الأخوة التنفيذ بعدما علموا بوجود بضع قذائف مدفعية من مخلفات الجيش الأردني، فسعوا إلى الحصول عليها، ويبدو أن هذا المصدر كان تحت أعين السلطات الإسرائيلية.

كانت سرايا الجهاد فكرة، ولم تكن تنظيماً، ولا انشقاقاً عن حركة فتح، أو امتداداً لها، أو لحركة الجهاد الإسلامي، وانما كانت ملكاً لكل العاملين فيها من وطنيين وإسلاميين. لم تنته سرايا الجهاد باستشهاد الإخوة في قبرص، وانما لأن مهمتها انتهت ببزوغ حركات إسلامية مجاهدة، مثل حماس والجهاد، فهي لم تسع، يوماً، لأن تكون فصيلاً جديداً.

حكاية سرايا الجهاد تكاد أن تنسى، أما الفكرة فقد استمرت في أذهان صانعيها، والمشاركين بها، وحسبي أن أذكر أن الشهيد، ميسرة أبو حمدية، الذي استشهد في سجون الاحتلال، حكم عليه بالسجن على ذمة عدة قضايا أذهلت المحقق الإسرائيلي، فقد كان متهما بتجهيز مجموعات استشهادية خلال الانتفاضة الثانية تابعة لفتح وحماس.

34BA9C91-C50D-4ACE-9519-38F0E79A3443
معين الطاهر

كاتب وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، ساهم في تأسيس الكتيبة الطلابية منتصف السبعينات، قائد للقوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة في حرب 1978 منطقة بنت جبيل مارون الراس، وفي النبطية الشقيف 1982.