إيران والترتيب الإمبراطوري للمنطقة..

17 فبراير 2015

استعراض لقوات الحرس الثوري الإيراني في طهران (19نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

لعلّه من التسرّع توقّع نتيجة محددة للمفاوضات الجارية بشأن الملف النووي الإيراني، فنهاية هذه المفاوضات التي أعلن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أنها تتعلق بالإرادة الإيرانية، وردّ نظيره الإيراني، حسن روحاني، عليه بأنها مرتبطة بالنيات الغربية، تبدو أقرب من أي وقت مضى، أو على الأقل، هذا ما يظهر. فمفاوضات (الخمس + واحد) مع إيران، باتت تجري بوتيرة أسرع، وأكثف من الماضي. ولم يعد لقاء وزيري خارجية الولايات المتحدة وإيران حدثاً استثنائياً، كما كان في السابق، بل أصبح أمراً عادياً. وباتت نقاط الخلاف حول الاتفاق النهائي معروفة على نطاق واسع، وكذلك طرق تذليلها.

وحتى في هذه الأيام التي لم تشهد بعد التوصل إلى الاتفاق الشامل، يشير مراقبون إلى وجود تناغم أميركي إيراني في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط. ويذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، ليؤكد أن ما يبدو خلافاً أميركياً إيرانياً ليس سوى خداع محض، ويرون أن الاندفاعة الإيرانية في المنطقة، من العراق إلى اليمن، والتي تبعت اندفاعة تنظيم داعش في العراق وسورية، جاءت بغطاء أميركي، أو بالأحرى بناءً على اتفاق مسبق مع واشنطن. إلا أن هؤلاء المراقبين يغفلون عن الديناميات الفاعلة داخل النظام السياسي الإيراني، والنظام السياسي الأميركي، والنظامين الإقليمي والدولي، بل وحتى دنيامية التغيير الجارية في المشرق العربي واليمن. وتركز السطور التالية على محاولة فهم النظام السياسي للجمهورية الإسلامية في إيران، وتأثيرات تفاعلاته على المفاوضات النووية، والكفاح من أجل النفوذ الإقليمي.

النخب الإيرانية في الإمبراطورية

تتماهى دينامية النظام الإيراني مع المسألة النووية والقضايا الإقليمية في كلٍّ متداخل، عنوانه العريض "الصراع بين نخب الإمبراطورية الإيرانية" على رؤيتها الإمبريالية. ويقف على رأس الإمبراطورية المرشد الأعلى علي خامنئي، وهو يدير العلاقات المعقدة بين نخبها، وإن كان لا يخفي توجهه المحافظ في الداخل والخارج. ولقد جرى التقليد على تصنيف النخب الإيرانية بين محافظين وإصلاحيين، إلا أن الواقع يظهر وجود خطوط تقسيم بين المحافظين أنفسهم. وقد برزت انقسامات بين هؤلاء إبّان ولايتي محمود أحمدي نجاد والولاية الحالية لحسن روحاني.

لقد مثّل فوز روحاني في انتخابات الرئاسة لعام 2013، ومن الجولة الأولى، انتصاراً لأحد التيارات المحافظة، ما أسفر عن تحوّل في ميزان القوى الداخلي بين الفئات المحافظة. وجاء دعم خامنئي لصعود روحاني ليعزز من قوة الأخير على حساب الحرس الثوري والمحافظين التقليديين والقوميين. وبناءً على تقويمه حاجات إيران الداخلية والخارجية، وخصوصاً خوفه على استقرار النظام، أعطى المرشد دبلوماسية روحاني الانفتاحية الدعم الكامل، مطلقاً مبادرة كبيرة لمواكبتها، سمّاها "المرونة البطلة".

وبالفعل، أثمرت دبلوماسية روحاني عن توقيع الاتفاق المؤقت في أواخر العام 2013، وتخفيف حدة الضغوط الأميركية على طهران، وبداية تلمّسها طريقها للخروج من العزلة الدولية المفروضة عليها. وقاد هذان التطوران إلى انتعاش اقتصاد إيران، وإعادة الحياة إلى قوتها الإقليمية. وفي المحصلة، تعززت قوة روحاني، ما أقلق الفئات المحافظة الأخرى، ولا سيما أن النظام على أعتاب "عملية انتقال".

مرض خامنئي.. والمرحلة الانتقالية

بدا أن السياسة الإيرانية دخلت مرحلة من الفوضى، مع دخول خامنئي غرفة العمليات في الصيف الماضي. وقد أقلقت هذه الفوضى المرشد، وربما دفعته إلى إجراء تقييم شامل لاستراتيجياته، ووضعية إيران الإقليمية وقواها الداخلية. وبعد خروجه من المستشفى، لم يدخر المرشد وقتاً. وعلى الفور، حدد أولويته القصوى في حفظ استقرار النظام وضبط الصراع الداخلي عبر ضمان انتقال سلس للسلطة من بعده، يحفظ مكتسبات البلاد الداخلية والخارجية. وبالتالي، انكب على تحضير خليفته. وقد تفرعت باقي الأولويات عن هذه الأولوية.

ولأن انتقال السلطة يقتضي توفر بيئة أمنية صلبة، قرر خامنئي تحرير الحرس الثوري الذي سيوفر ضمانة للاستقرار، في أثناء عملية الانتقال المعقد في الداخل، من القيود السياسية، على الصعيدين الداخلي والخارجي، والتي فرضها في العام 2013، استجابةً لطلب روحاني الذي يعلم أن أي دبلوماسية في الخارج تغدو نافلة، بوجود ذراع أمني عسكري يتحرك في طول المنطقة وعرضها، بعيداً عن توجيهاتها. وقد أسفرت المراجعة عن تحوّل جديد في ميزان القوى داخل إيران. ومن الطبيعي، والحال هذه، أن يستعيد الحرس الثوري، القابض على مفاتيح استقرار النظام، نفوذه السابق في إيران، بعد شفاء خامئني الذي يعوّل، أيضاً، على الحرس، وخصوصاً فيلق القدس، كأداة للحفاظ على نفوذ إيران الإقليمي السامي، وتوسيعه.

لكن اصطفاف خامنئي إلى جانب الحرس الثوري لا يعني دفع روحاني إلى خارج المشهد؛ فالأخير لعب أدواراً مركزيةً في تطبيع الوضع الداخلي والاقتصادي والدبلوماسي لإيران، وذلك في مدة قياسية، لا تتجاوز العام ونصف العام. لذا، كان مستبعداً أن يستغني المرشد عن روحاني، وإن كان نفوذ الأخير داخل النظام قد تراجع، منذ نجاح عملية الأول الجراحية.

على صعيد آخر، عدّل خامنئي سياسة بلاده الخارجية، التي مالت تحت رئاسة روحاني، بدعم من المرشد بطبيعة الحال، إلى التهدئة والحوار. وعاودت السياسة الإيرانية إلى سيرتها الأولى، وهي أكثر تشدداً. وأنهى الترتيب الجديد الذي أرساه خامنئي مبادرة "المرونة البطلة". وتحت إشراف الحرس الثوري، انتقلت إيران إلى سياسة هجومية في المنطقة، أسفرت عن مزيد من الاختلال في ميزان القوى الإقليمي، المختل أصلاً، لصالح طهران.

الديناميتان الإيرانية والإقليمية

منذ وصوله إلى السلطة، سعى الرئيس روحاني إلى تنفيذ رؤية إقليمية، قائمة على التعاون مع دول المنطقة، وخصوصاً مع السعودية، من أجل مواجهة التحديات المشتركة. ولعلّ هذه الرؤية، بالتحديد، هي ما جعله يطلب من المرشد منع الحرس الثوري من التدخل في الشؤون السياسية لإيران. وعندما بدا أن سقوط مدينة الموصل العراقية، في يونيو/ حزيران الماضي، سيوفر الأرضية المناسبة لانطلاق الحوار السعودي الإيراني، كما أمل روحاني، تدخل الحرس الثوري، متهماً السعودية بفتح أجوائها أمام طائرة إسرائيلية من دون طيار، أسقطها في أثناء تجسسها على المنشآت الإيرانية في عمق البلاد! ثم كان مرض المرشد، وكان ما كان من انحيازه للحرس عقب تعافيه. فالحرس الذي خطط التوسّع، ونفّذه في كل ساحة إقليمية امتد إليها نفوذ طهران، منذ إنشاء حزب الله اللبناني، في ثمانينات القرن الماضي، يصر على الاستمرار في استراتيجية التوسع، تحت شعارات إيديولوجية متنوعة. والحرس، بطبيعة الحال، لا يعبأ بأثمان التوسع السياسية والاقتصادية على إيران، وهو لا يرى نفسه ملزماً بتوضيح الحدود النهائية لهذا التوسع، أو جدواه، وتبدو شراهته للتوسع، وكأنها من دون حدود. أما روحاني الذي تقع عليه، بوصفه رأس السلطة التنفيذية، مواجهة أعباء توسع نفوذ بلاده في الخارج، فهو مضطر أن يزن أي تقدم إقليمي لبلاده بمعايير الربح والخسارة وردود أفعال الأطراف الإقليميين والدوليين. وليس معنى ذلك أن روحاني يعارض توسيع نفوذ طهران، بل معناه أن الرجل يريد للتوسع أن يخدم مصالح بلاده الأمنية، لا أن يشكل عبئاً يفوق أي فائدة مرتجاة منه، خصوصاً أنه يدرك أن المبالغة في التوسع الخارجي تحمل بذور اضمحلال قوة بلاده ونفوذها الإقليمي.

إذن، ليس الخلاف بين روحاني والحرس الثوري حول التوسع، بل يتركز حول مداه، وأساليبه أيضاً، حيث يبدو أن الرئيس الإيراني يتبنى أساليب سياسية ودبلوماسية لتحقيقه، بينما يتوسل قادة الحرس طرقاً أمنية وعسكرية. ومن هنا، تنبع رغبة روحاني في الحوار مع السعودية، ليس لإعجابه بسياساتها، بل لأنه يعتقد أنها تملك المفتاح لشرعنة النفوذ الإيراني الكبير في قلب العالم العربي، في حين يرفض قادة الحرس أي حوار مع دولةٍ يعتبرونها عقبة كأداء أمام تغلغل نفوذ بلادهم في الخليج والهلال الخصيب، ويصرون على هزيمتها، وربما على ما هو أبعد من ذلك.

هكذا أثرت الدينامية الداخلية الإيرانية على شأن خارجي، من عيار العلاقة مع الرياض، في لحظة سياسية حساسة. وعندما ضاعف الحرس الثوري تدخله في كل من سورية والعراق واليمن، بما أدى إلى قلب الموازين في هذه الساحات ضد الرياض وحلفائها، انهارت العلاقة السعودية الإيرانية. ولكونه واقعياً من الطراز الرفيع، لم يعد روحاني مهتماً بتحسين العلاقات مع السعودية، عقب التدهور المضطرد في نفوذها الإقليمي. ويبدو أن السياسة الإيرانية الإقليمية، تتجه إلى استكشاف إمكانية تطوير الروابط مع مصر، لموازنة تقارب يلوح بين أنقرة والرياض، وذلك بينما تحث المفاوضات النووية الخطى نحو قدر غامض.

الدينامية الداخلية والمفاوضات النووية والنفوذ الإقليمي

تبلور الاتفاق المؤقت خلال مفاوضات سرية، عقدها المرشد مع إدارة أوباما في مسقط، بوساطة عمانية، بدأت قبل نهاية ولاية محمود أحمدي نجاد بستة أشهر (أوائل 2013). دفعت جملة من العوامل المرشد إلى التوقيع على الاتفاق، منها: (ضعف موقف إيران التفاوضي، نتيجة التهديد الذي تعرّض له نفوذها الإقليمي على خلفية الأزمة السورية ـ الوحدة التي أظهرتها دول مجموعة (5+1) في المفاوضات ـ الوضع الكارثي الذي آل إليه الاقتصاد الإيراني). إلا أن سلسلة أحداث طرأت بعد التوقيع، عززت موقف طهران. فقد تراجع زخم العقوبات المفروضة على إيران، بعد تعليقها وإلغاء أجزاء منها، ما سمح للاقتصاد الإيراني بالتقاط أنفاسه، وللنظام باستعادة اللحمة الشعبية من حوله، بعد تحدي "الثورة الخضراء"، في حين تمكن حلفاء طهران في الهلال الخصيب من استعادة المبادرة الإقليمية، بعد انتصارهم في معركة القصير في ريف حمص السوري.

لكن تضعضع الوحدة بين القوى الكبرى في مجموعة (5+1) مثّل التغيير الأكبر في بنية المفاوضات النووية، منذ توقيع الاتفاق المؤقت. ففي أقل من أربعة أشهر على توقيع الاتفاق المؤقت، خضعت الوحدة بين القوى الكبرى لامتحاني الأزمة الأوكرانية والصراع في بحر الصين الجنوبي، فلم تخرج منهما سالمة على الإطلاق.

ومن حيث لم تحتسب، جاءت أزمة الموصل لتفتح مرحلة جديدة في العلاقات الإيرانية الأميركية. فقد طلبت واشنطن، على هامش المفاوضات النووية، تعاون طهران في الحرب ضد تنظيم (داعش)، وهو ما اعتبرته الأخيرة ورقة جديدة، تضاف إلى ترسانتها التفاوضية. ولأن إيران باتت، بحسب المسؤولين الإيرانيين، "اللاعب الأكبر" ضد الإرهاب في المنطقة، لم تعد ترى أن من الضروري تقديم التنازلات على الطاولة النووية. في المقابل، باتت واشنطن مدعوةً إلى التنازل، إذا ما أرادت التعاون الإيراني في مواجهة الإرهاب.

وهكذا، فإن الحرس الثوري، الذي يجيّش الجيوش والميليشيات، في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، لمواجهة "الإرهاب"، بات القوة الضاربة ليس فقط داخل النظام الإيراني، بل وفي الإقليم أيضاً، تحت سمع المرشد وبصره. ويمكن اعتبار هذا "الترتيب الإمبراطوري"، داخل إيران وخارجها، الآن، بمثابة أهم عامل في مستقبل المفاوضات النووية، وذلك مختلف بشدة عن الفرض الأساسي الذي، على أساسه، اندفعت إدارة أوباما إلى المفاوضات، ومفاده بأن خامنئي، الطاعن في العمر، يشكل، وحده، مفتاح الموقف في طهران من المسألة النووية. لذلك، لا بد من الإسراع في تحقيق الاختراق. ولاحقاً، ضمت الإدارة موقف روحاني داخل النظام الإيراني إلى فرضياتها التفاوضية. ويبدو أن نتيجة المفاوضات النووية النهائية مرتبطة برغبة إدارة أوباما في ضم موقف الحرس الثوري إلى تلك الافتراضات.

The website encountered an unexpected error. Please try again later.