الموصل وأخواتها الخمس

06 ديسمبر 2016
+ الخط -
يترافق الصراع الدائر على مستقبل مدينة الموصل العراقية ما بعد "داعش" مع عملياتٍ شديدة التعقيد في الكواليس الدولية والإقليمية والمحلية، بشأن أخواتها الخمس الأخريات.
ينخرط الفاعلون الدوليون والإقليميون في تحديد مصير الهلال الخصيب، من خلال التأثير على مستقبل مدن الموصل، بغداد، البصرة، دمشق، حلب، بيروت.
على الرغم من التحول الكبير الذي شهدته البنية الدولية للشرق الأوسط، بعد عودة الروس العسكرية إلى المنطقة من البوابة السورية، لا تزال الولايات المتحدة تحتل المكانة الأسمى في تحديد مصير الهلال الخصيب. هذه الدولة مهيمنة في بغداد (واستتباعاً البصرة)، وهي تقود تحالفاً دولياً لطرد "داعش" من مدينة الموصل. ولواشنطن تأثيرها على حلب عبر الورقة الكردية، ووجودها العسكري في عين العرب، رميلان وسد تشرين، وعلى دمشق عبر درعا، الأردن وإسرائيل، فضلاً عن أنها تعتبر دحر "داعش" عن دير الزور والرقة شأناً أميركياً. وإن كان ذلك غير كافٍ، فإن البوارج الأميركية تسيطر على البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر والخليج العربي. ولهذه القوات وجود في السعودية، قطر، الكويت، الخليج العربي، العراق، تركيا. نقطة القوة الأكبر لدى واشنطن هي مغازلة سائر القوى الإقليمية لها، وفي هذا تتماثل إيران، تركيا، السعودية، مصر. وقد سمح الاتفاق النووي الإيراني بتعزيز ساحة المناورة الأميركية في المنطقة (وينطبق الأمر نفسه على مصر).

على الجانب الآخر، روسيا الاتحادية. خلال العام المنصرم، اجتهد الكرملين في تأسيس قواعد لبلاده في غرب سورية. الحصيلة قاعدتان؛ بحرية في طرطوس، وجوية في حميميم. وتكثف روسيا، حالياً، الضغط على المسلحين في محيط دمشق وداخل حلب، لكي تحسم في الهزيع الأخير من ولاية الرئيس الأميركي، باراك أوباما، مسألة السيطرة على المدينتين. ومن سورية، امتد النفوذ الروسي، بشكل تلقائي وطبيعي، إلى بيروت. مقابل ذلك، يبقى النفوذ الروسي محدوداً في بغداد، البصرة، والموصل. تروم استراتيجية روسيا الوصول إلى محور الرقة دير الزور، بعد استكمال السيطرة على محور دمشق حلب الذي كانت قد زحفت إليه من محور اللاذقية طرطوس. وبالسيطرة على الرقة ودير الزور يمكن لموسكو التأثير على الوضع في العراق، في ما بات يطلق عليه "تأثير (أبو بكر) البغدادي"، أمير تنظيم داعش الذي قاد جحافله من الرقّة للسيطرة على الموصل.
وللصراع الدائر في الموصل انعكاسات استراتيجية على دمشق وحلب، وبيروت، وكذلك، على الوجود العسكري الروسي في سورية. ويتأمل الروس الاحتمالات الاستراتيجية في الموصل: حسم أميركي قبل الحسم الروسي في حلب، أو تأخر الحسم الأميركي في المدينة العراقية.
إذا حصل الحسم الأميركي، سيزداد نفوذ واشنطن وطهران شرقي الهلال الخصيب بما يعزّز إمكانات الإيرانيين والأميركيين للتأثير على الوضع شرقي سورية، ويعزل الروس في جيب صغير غربي الهلال الخصيب.
وبالكاد يناسب الاحتمال الثاني الاستراتيجية الروسية، فتأخر الحسم الأميركي سيدفع الولايات المتحدة إلى البحث عن مزيدٍ من معونة الإيرانيين أو الأتراك. في الحالة الأولى، ستتراخى العلاقات الروسية الإيرانية نتيجة الاشتراطات الأميركية. وفي الحالة الثانية، سيتقلص هامش موسكو للمناورة بين واشنطن وأنقرة.
ولا ينسى الكرملين تراجع الإيرانيين عن تسهيل انطلاق الطائرات الحربية الروسية الاستراتيجية من قاعدة همدان الجوية، وسط إيران. خشي الإيرانيون رد فعل أميركي غاضباً، يحرمهم من المشاركة في عملية الموصل بعد افتضاح أمر همدان. هذه الخشية جعلت الإيرانيين يعودون عن تفاهماتهم مع الروس حول همدان، ريثما تنتهي معركة الموصل. وأخيراً، لوّح مسؤولون إيرانيون للروس بهمدان.
لإيران مكانة سامية في الصراع على المدن الست، فهي مهيمنة، بشكل أو آخر، على غالبية هذه المدن (دمشق - بيروت - البصرة - بغداد) بينما تحاصر مليشياتها، بالتعاون مع الولايات المتحدة، الموصل، وبالتعاون مع روسيا، حلب. ولا عجب في هذا، فطهران تراهن على قدرتها على التلاعب بالروس والأميركيين، ما يطلق يديها في تحقيق طموحاتها في الهلال الخصيب. وتمكّنت إيران من تحقيق مزايا كبيرة في الصراع على المدن الست، تتمثل في سيطرة أدواتها من حزب الله ومليشيات الحشد الشعبي على حمص وريف دمشق (ما يعزز نفوذها في دمشق، وبيروت وباتجاه حلب)، وكذلك على الأنبار، وهي، أخيراً، تعمل على مد التواصل ما بين حمص والعراق عبر الأنبار وتلعفر.
أما تركيا فهي تحاول الدفاع عن مواقعها في حلب، وتأمين موقع قدم لها في الموصل، معولةً على هاتين المدينتين، علها تعزّز نفوذها في بغداد، دمشق، البصرة، وبيروت. وفي المقابل، تجد السعودية، ومثلها مصر، إسرائيل، أنها لا تزن كثيراً بين الدول الإقليمية في هذا الصراع. وقد انحدر النفوذ السعودي في بيروت إلى أضعف أحواله، أما حول دمشق فالقوى المدعومة سعودياً تتعرّض إلى حرب إبادة.

والآن، تدور عمليات معقدة وراء الكواليس، بخصوص مستقبل المدن الست. وتظهر الصفقة اللبنانية التفاعل العميق بين أوضاع الموصل، حلب وبيروت.
من أهم الحقائق الجيوسياسية في الهلال الخصيب أن من يتحكّم بدمشق، يمد تلقائياً نفوذه إلى لبنان. والروس الذين غدوا أسياد اللعبة في تحديد مصير سورية، اتسع نفوذهم في لبنان؛ فمنذ بات للروس قوات في غرب سورية، تحول الجنرال ميشال عون، من دون ضجيج، عن حلفائه الإيرانيين، إلى موسكو. هكذا عملت روسيا، ومن وراء الكواليس، على حياكة تسويةٍ لبنانيةٍ وفق صيغة لا غالب ولا مغلوب، جاءت بعون رئيساً للجمهورية، وسعد الحريري رئيساً للحكومة.
قدّرت روسيا أن حسم معركتي الموصل وحلب سيقلب ميزان القوى الإقليمي لصالح إيران، وحينها لن تقبل الأخيرة بتسويةٍ في لبنان وفق "لا غالب ولا مغلوب"، بل ستطالب بتسويةٍ تطيح ما تبقى من النفوذ السعودي. كما قدّرت الدبلوماسية الروسية أن الحكومة السورية لا ترى مصلحةً في تسوية الأزمة اللبنانية، قبل "إعادة توحيد حلب"، وعندئذٍ، تتقاسم لبنان مع إيران، بشكل ثنائي، وتزيحان النفوذ السعودي عنه.
دخل الروس وسطاء وضامنين لصفقةٍ تنهي أزمة الرئاسة اللبنانية، قبل الانقلاب الذي سيشهده ميزان القوى الإقليمي ما بعد الموصل وحلب. وعلى الرغم من أن أزمة شغور كرسي الرئاسة اللبنانية كان من الممكن، نظرياً، أن تستمر سنواتٍ مقبلة، إلا أن لبنان نفسه لم يكن مؤهلاً لتحمل مزيدٍ من الصراع الإقليمي الذي سيعقب انقلاب الموازين الإقليمية.
هكذا، أثرت الاستعدادات العسكرية حول الموصل وحلب على الأزمة اللبنانية، ومن شأن مصير المدينتين أن يكون له تأثير على مجمل الأوضاع في الشرق الأوسط، وخصوصاً الكويت، البحرين، اليمن، الأردن وتركيا.

دلالات