الطبقة الوسطى المصرية.. من الدولة وإليها

30 نوفمبر 2015
+ الخط -
تُعَد الطبقة الوسطى بمثابة الرافعة الأساسية لقيام النهضة في المجتمع، والتي يُطلق عليها "البرجوازية"، وهي تعبّر عن طموحات القاعدة العريضة من أبنائه، فهي موطن الاعتدال والإبداع، وصمام أمان الاستقرار، وتتسم بالقدرات المادية المتوسطة التي تحفِّزها على الإبداع والترقي، بعكس الطبقة العليا ذات الغِنى الطاغي، والطبقة الدنيا ذات الفقر المُنسي. وقد لعبت الطبقة الوسطى دوراً كبيراً في مسيرة الحركة الوطنية المصرية، في الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، ومثَّلت المعين الأساسي لكل التيارات الفكرية والسياسية التي شكّلت الجماعة الوطنية المصرية، فهي "حاملة مشاعل النهضة"، بتعبير الراحل أحمد بهاء الدين.
وقد قضى الدور الكبير الذي لعبته الدولة في مصر، على حساب حركة المجتمع، على فرصة الطبقة الوسطى في "النمو الطبيعي"، فمنذ نشأتها وطوال تاريخها، تمثّلت نقطة ضعفها التاريخية في تبعيتها الكاملة للدولة، ونزعتها الإذعانية تجاهها. إذ تعاني الطبقة الوسطى من "عيب خَلقي"، كونها وُلِدَت بقرارات سلطوية، وإجراءات فوقية، واعتمدت، في نموها وانتشارها، بالدرجة الأولى، على السياسات الاقتصادية للدولة التي تعهدتها بالرعاية، الأمر الذي جعل مكاسبها رهينة بيد الدولة، وأن تذروها العواصف السياسية، عندما ترفع الدولة يدها عنها. فلم تولد الطبقة الوسطى نتيجة صراع مع السلطة، ولم تدخل في اشتباك مع الدولة، للدفاع عن مصالحها، أو المطالبة بحقوقها. ولهذا، حمل "العقل الجمعي" لها روح الولاء للدولة، ما أورثها نزعة استسلامية تجاه الدولة، جعلتها في حالة "قناعة دائمة" لما تجود به الأخيرة عليها. وهنا، يتضح الفارق بين الطبقة الوسطى المصرية، من حيث ظروف النشأة، ونظيرتها الأوروبية، فقد شقّت الثانية طريقها بيدها بالدفاع عن مصالحها، ولم تنتظر منحة أو هبة من الدولة، فسارت علاقتها بالدولة في الاتجاهيْن، ضغط من الطبقة الوسطى، للدفاع عن مصالحها وحقوقها، قابله استجابة من الدولة، بإصدار تشريعات تلبّي مطالب الطبقة الوسطى، بعكس ما حدث في مصر، حيث كانت علاقة الطبقة الوسطى بالدولة أحادية الاتجاه، لعبت فيها الدولة الدور الأكبر، وأحيانا لعبت الدوريْن معاً، دوري الدولة والطبقة.
قام محمد علي بتجريف كل البنى المجتمعية القديمة بمطرقة الدولة، واستبدل نُخبة تكنوقراطية صُنعت بيد الدولة، وعلى عينها، بالنُخبة المجتمعية التي أفرزها المجتمع، حيث كان العنوان الرئيسي للنُخبة الجديدة "عبيد إحسانات أفندينا". وقد أنشأت دولة محمد علي طبقة وسطى كبيرة كمّاً، ترتبط بـ"حبل سري" مع الدولة، إذ لعبت السياسات الإقتصادية التي اتبعها دوراً كبيراً في إعادة صياغة الطبقة الوسطى، وتوسيع رقعتها، وتغيير سماتها. وقد مثّل نظام التعليم الحديث الذي أنشأه محمد علي معمل التفريخ الأساسي لموظفي الجهاز الإداري للدولة مكوّناً الشريحة الرئيسية للطبقة الوسطى التي اتسمت بالولاء الكامل للدولة، كونها تعلّمت في مدارسها، وتوظّفت في دواوينها. ومن جهة أخرى، وبموجب نظام "الاحتكار" الذي أنشأه محمد علي، صارت الدولة الزارع الأول والصانع الأول والتاجر الأول. باختصار أحكمت الدولة سيطرتها على المجتمع ولم تترك له أدنى مساحة للحركة الذاتية .

وكان النصف الأول من القرن العشرين أفضل عصور الطبقة الوسطى، فقد كانت طبقة متجانسة، ومتميزة في خصائصها، خصوصاً في تعليمها، وكان التعليم الطريق الوحيد تقريباً للحراك الاجتماعي، وانعكس هذا على إنتاجها الثقافي الرفيع، وروحها الوطنية العالية، ونمط معيشتها، من الأحياء السكنية، إلى أسلوب الحديث، إلى الملابس، إلى الأذواق الفنية. باختصار، كانت طبقة وسطى صغيرة كماً، لكنها كبيرة كيفاً، إلا أن حضورها السياسي ظلّ شاحباً، فقد كانت النخبة السياسية مقتصرة على كبار المُلّاك الزراعيين والرأسماليين.
وبعد قيام "الضبّاط الأحرار" بانقلابهم في 23 يوليو/تموز 1952، شهدت الطبقة الوسطى نمواً كبيراً، بسبب السياسات الاقتصادية للنظام الجديد، وتطبيق قوانين وإجراءات بعينها، مثل الإصلاح الزراعي، والتأميم، ومجانية التعليم، وتحديد إيجارات المساكن، وإلتزام الدولة بتعيين جميع خريجي الجامعات، وحملة المؤهلات المتوسطة، في الحكومة وشركات القطاع العام، فصبت محصِّلة هذه الإجراءات، في صالح توسيع رقعة الطبقة الوسطى، عبر هبوط عدد كبير من عناصر الطبقة العليا، وصعود عدد كبير أيضاً من عناصر الطبقة الدنيا.
وأخل الاتساع الكبير لحجم الطبقة الوسطى بتجانسها من جهة، وقضى على روح المبادرة لديها من جهة أخرى، حيث ترسّخ الشعور لديها بالولاء الشديد للدولة، والإذعان الكامل لها، كونها تربّت في كنفها، ما أضعف كثيراً من فاعليتها السياسية، وزاد نظام الحزب الواحد، أو التنظيم الشمولي الأوحد، الطين بِلَّة، بمناخ الانتهازية السياسية الذي أحدثه، ما ساهم في وصول كثيرين إلى مراكز السلطة وصنع القرار، ممن لا يمثّلون مصالح الشعب، بقدر ما يمثّلون مصالحهم الخاصة، كما أدى الإجهاز على التجربة الحزبية إلى تجفيف الحيوية السياسية التي اتسمت بها الحقبة شبه الليبرالية، الأمر الذي انعكس، بآثار بالغة السلبية، على الطبقة الوسطى.
وفي السبعينيات، بدأت الطبقة الوسطى رحلة الهبوط، بعد تطبيق سياسة "الانفتاح"، وانحسار دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، وفتح أبواب الاستيراد، وما صاحبه من زيادة معدل التضخّم وازدياد النزعة الاستهلاكية. وفي عهد حسني مبارك، تعرّضت الطبقة الوسطى لعملية تجريف بالغة القسوة عبر الإفساد والإفقار، دفع النخب المهنية من الشرائح العليا والمتوسطة منها إلى الهجرة إلى الخارج، وانغماس من تبقى منها في دوامته المعيشية، ليُصارع، بكل قوة، من أجل الحفاظ على مكانته الاجتماعية.
عانت الطبقة الوسطى، طوال تاريخها، من إذعانها للدولة ورضوخها للسلطة، إلا أن الأنظمة السلطوية التي تعاقبت على مصر منذ 23 يوليو 1952 أضافت إلى هذه العلاقة بُعداً جديداً، لا سيّما في عصر الانهيار الشامل في عهد مبارك، عندما قامت بتنميط العلاقة بين السلطة والمجتمع بطابع "الزبائنية"، بعدما ربطت السلطة بين الترقي الاجتماعي ودرجة القبول والإذعان بمنظومة الفساد والاستبداد، وعدم التفكير في تغييرها، أو حتى إصلاحها، وعندما صار تقديم أهل الثقة على أهل الخبرة قاعدة أصيلة لتولية المناصب، وعندما صار مدى ولاء المرء للنظام، وإذعانه لرؤسائه وعدم إثارته"مشكلاتٍ"، وتمتعه بـ"قيم" التزلّف والتملّق والتسلّق، شرطاً أساسياً لصعوده الوظيفي والاجتماعي، حتى ولو كان معدوم الموهبة والكفاءة.
ويُعد "توريث" الوظائف داخل مؤسسات الدولة، من الآباء إلى الأبناء، بل وإلى الأحفاد، أبرز مثال على عملية الإفساد الممنهجة التي تعرّضت لها الطبقة الوسطى، طوال ثلث القرن الأخير. والتي كانت نتيجتها أنها أوجدت شبكات مصالح معقّدة، من المنتفعين والمستفيدين من بقاء الأوضاع على حالها، والرافضين أي تغيير، كونه سيمسّ، مباشرة، امتيازاتهم الاجتماعية الكبيرة "غير المكتوبة"، والتي يتمتعون بها من دون أي مسوّغ منطقي.
في 25 يناير/كانون ثاني 2011، شقّت قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى عصا الطاعة على الدولة، وخرجت عن نزعتها الإذعانية تجاهها، وخرجت تطالب بحقوقها المسلوبة، إلا أن غياب البديل الثوري، وعفوية الفعل الثوري، وعدم وجود رؤية للتعامل مع المشكلات المستعصية التي خلّفها نظام مبارك، وعدم حدوث أي تغيير في البنية الاقتصادية والاجتماعية، أفقد الطبقة الوسطى شعورها بالأمان، فخرجت في 30 يونيو، لتعود إلى أحضان الدولة مجدداً، وتطالبها بالتدخّل لإنقاذها من "فوضى" الثورة.
ويظلّ الأمل في الشريحة الشبابية داخل الطبقة الوسطى، التي خرجت في 25 يناير 2011، فهي التي لم تتلوّث بمنظومة الفساد، ولم تستطع السلطة استمالتها، أو شراء ولائها، وهي التي تنعقد عليها الآمال في خوض معركةٍ تهدف بالأساس إلى تغيير الوعي الذي ترسّخ في العقل الجمعي للمجتمع، بربط الصعود الاجتماعي بالصمت، أو التزلّف للسلطة ومداهنتها، وبترسيخ مفاهيم اقتران تداول السلطة بالتوزيع العادل للثروة، والارتباط الوثيق بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وبين ممارسة الحقوق السياسية والحصول على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وعدم الانفصال بين هذا وذاك، لعلّ المستقبل يحمل إعادة التوازن إلى علاقة الطبقة الوسطى بالدولة.






دلالات