مسلمو فرنسا بعد "شارلي إيبدو"

14 يناير 2015

إضاءة شموع في باريس بعد الجريمة (11 يناير/2015/Getty)

+ الخط -
في اليوم الذي ارتكبت فيه الجريمة الإرهابية ضد مجلة "شارلي إيبدو"، طرحت رواية مثيرة للجدل للبيع في المكتبات الفرنسية، بعنوان مستفز "خضوع"، للكاتب الفرنسي ميشيل ويلبيك تتنبأ بأن رئيس فرنسا عام 2022 سيكون مسلماً. هي عمل أدبي تخيلي يصور صاحبه فرنسا عام 2022، عندما فازت مارين لوبان، زعيمة الحزب اليميني الفرنسي المتطرف "الجبهة الوطنية"، في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، ومنافسها الوحيد زعيم كاريزماتي اسمه محمد بن عباس يرأس حزباً إسلاميا "الأخوة الإسلامية"، وكلاهما من بنات خيال الكاتب. ومن أجل وقف وصول زعيمة الحزب اليميني إلى الرئاسة، ستلتف الطبقة السياسية الفرنسية حول زعيم الحزب وتدعمه ليصبح أول رئيس مسلم للجمهورية الفرنسية.
ومع وصول أول رئيس مسلم إلى رئاسة فرنسا، يرسم الكاتب كيف سيبدأ تغيير قيم الجمهورية، بتشجيع النسوة على ترك أعمالهن لخفض معدل البطالة، والتصدي للجريمة في الأحياء السكنية الفقيرة المكتظة، بينما يصبح الحجاب الزي السائد، وتسمح الحكومة بتعدد الزوجات، وتجبر الجامعات على تدريس القرآن. أما الشعب الفرنسي المخدر والفاسد، فيستسلم للوضع الجديد، ومن هنا جاء عنوان الرواية "خضوع" أو "استسلام"، وهي الكلمة التي يدعي المؤلف أن كلمة "إسلام" اشتقت منها.
كانت هذه الحبكة الروائية المستفزة مثار جدل واسع، قبيل وقوع الهجمات الإرهابية التي هزت فرنسا، والتي ارتكبها، مع الأسف، أصحابها باسم الإسلام. وبالتالي، جاءت لتغذي الجدل حول صعود اليمين المتطرف في فرنسا، وتصاعد الأفكار العنصرية ضد الأجانب، المسلمين خصوصاً. فما كان مجرد عمل أدبي لاستشراف المستقبل، حسب مؤيديه، أو مجرد منشور دعائي معاد للإسلام ويروّج أطروحات اليمين المتطرف، حسب منتقديه، أصبح، بعد الجرائم التي ضربت فرنسا، يدفع فرنسيين كثيرين، وخصوصاً ممن يدينون بالإسلام، أو يتحدرون من دول إسلامية، إلى طرح الأسئلة المستفزة والواقعية عن مستقبل الإسلام والمسلمين في فرنسا.
فمنذ وقوع هذه الأحداث المأساوية، تسود أوساط الجالية الإسلامية في فرنسا، التي تعتبر الكبرى في أوروبا، مخاوف من أن تؤدي هذه الهجمات إلى تصاعد أعمال العنف التي تطال مسلمي فرنسا. فقد تعرضت مساجد في فرنسا للرشق بالرصاص أو بالحجارة، وأحيانا بأشياء أخرى مسيئة. وعثر على كتابات عنصرية ومسيئة للمسلمين والعرب في بعض المساجد. وفي
كورسيكا، عثر على رأس خنزير وأمعائه معلقين على باب قاعة صلاة للمسلمين.
طبعا كل هذه الأحداث غير مبررة، ولا يجب السكوت عليها أو تغاضيها، بدعوى أن فرنسا اليوم تحت الصدمة. فما ذنب الأبرياء الذي يعيشون، اليوم، تحت رعب مزدوج. رعب الإرهابيين الذين يرتكبون جرائهم باسم الإسلام، ورعب المتطرفين والعنصريين الذين ينتقمون منهم بسبب إسلامهم.
ما يخشاه المسلمون، داخل فرنسا وخارجها، هو أن تكرر فرنسا سيناريو ما بعد 11 سبتمبر عام 2001 في أميركا، عندما قررت إدارة الجمهوريين، آنذاك، أن تضع أمنها قبل قيمة الحرية، ما أدى إلى النتائج التي يعرفها الجميع. فقد نجحت آلة الدعاية الرسمية الأميركية أن تقنع المواطن الأميركي البسيط بأن نمط حياته هو المستهدف من الإرهاب، وظهرت مقالات لكبار الكتاب الأميركيين تشرح للناس لماذا يكره الآخر نمط حياته ويحسده عليها، ولم يترك الرئيس جورج بوش لذلك الآخر أي خيار بديل، فإما أن يكون مع أميركا أو يكون مع الإرهاب. فكانت النتيجة "حرباً عالمية" ضد الإرهاب، لم تؤد إلى استئصاله، وإنما ساعدت أخطاؤها و"جرائمها" إلى تناميه، وتعاظم مخاطره. ففي وقت كانت توجد فيه منظمة إرهابية واحدة، هي "القاعدة"، محاصرة في جبال أفغانستان، أصبح اليوم للإرهاب أكثر من تنظيم، وأكثر من وكر في جميع القارات في العراق وسورية وليبيا واليمن ونيجيريا ومالي والصومال وأفغانستان وباكستان. وأصبحت أذرعه تطال أهدافها في قلب أوروبا، وتهدد أغلب الدول بما فيها حتى الإسلامية منها.
حتى اليوم لا يوجد ما يدعو إلى الخشية من تكرر هذا السيناريو في فرنسا، فالرئيس الفرنسي ورئيس وزرائه أوضحا أن الحرب ضد الإرهاب لا تعني أنها موجهة ضد الإسلام، كما أن الطبقة السياسية الفرنسية تصرفت بحكمة في تعاطيها مع أكبر هجمات إرهابية تضرب بلادها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد تابعنا كيف نجح المتظاهرون الذين خرجوا بالملايين، الأحد الماضي في فرنسا، للاحتجاج ضد الإرهاب، في أن لا يقعوا في الخلط ما بين الإرهاب والإسلام.
وما يدفع إلى التفاؤل أن فرنسا اعتبرت الهجمات التي ضربتها استهدفت، بالدرجة الأولى، قيمها، وليس نمط عيشها. ولحسن الحظ، إن القيم التي استهدفت كونية مشتركة، تتقدمها حرية الرأي والتعبير التي تعتبر أساس كل القيم التي يقوم عليها البناء الديمقراطي. والقيم، كما هو معروف، تعلو على نمط الحياة والعيش. لذلك، عندما تنتصر يستفيد منها الجميع، وعندما تضرب يتأذى بسببها الجميع، لا فرق بين دين أو جنس أو لون. استغل الإرهاب هذه القيم لضربها، وهنا المفارقة، فهو كمن يطلق الرصاص على رجليه. وأحسن رد عليه سيكون بالتمسك بها وتقويتها، لأن أي مساس بها سيكون انتصاراً للإرهاب الذي لا قيم ولا دين له. وإذا ما انتصرت هذه القيم، فلا شيء سيمنع من أن تتحقق غداً نبوءة الكاتب الفرنسي.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).