26 سبتمبر 2018
الأزمة الأوكرانية تقلق الاقتصاد الروسي
بات طبيعياً أن تطالبك موظفة البريد بالاطلاع على لائحة السلع المحظورة، إذا رغبت بإرسال طرد بريدي إلى أي مكان ضمن حدود الفيدرالية الروسية. انعكس الحصار الاقتصادي المفروض تجاه روسيا سلبياً بشكل غير مسبوق على الاقتصاد الأوروبي، وأدّى إلى تراكم السلع والمنتجات التي كانت تصدّر، وتستهلك بيسر في الأسواق الروسية، وأخذ قطاع العمل الأوروبي يبحث عن أسواق أخرى، وإيجاد بدائل نتيجة الكساد الكبير الذي شهدته الأسواق الأوروبية.
بولندا تصدّر كميات كبيرة من الطماطم إلى روسيا، واضطرت، أخيراً، إلى إغراق أسواق دول أوروبا الشرقية والوسطى بالطماطم والخضار، كما أغرقت ألمانيا هذه الدول بمئات الأطنان من الأجبان المختلفة، ما يعادل استهلاك بعض هذه الدول عشر سنوات. أدّت هذه الأوضاع إلى حصار المنتجين الوطنيين، غير القادرين على مواجهة الأوضاع الجديدة، وأعلن قطاع العمل الصغير إفلاسه، ولجأ قطاع العمل والزراعة المتوسط إلى سياسة شدّ الأحزمة، بسبب انخفاض أسعار تسويق هذه السلع والمنافسة الشديدة غير المتوقعة من كبار المنتجين الغربيين، وهذه نتائج منطقية لدول الاتحاد التي استفادت من أولويات اتفاقية الانضمام، وعليها، الآن، أن تتحمل تبعات سياسة بروكسل الخارجية تجاه حصار ومقاطعة اقتصاد روسيا العملاق، والسماح لنتاج أوروبا من دخول حدودها دون رسوم أو جمارك.
استخدمت روسيا ورقة ضغطها القوية والفاعلة، المتمثلة بالغاز المتدفق عبر قناة أوكرانيا الدولية، إلى دول المنظومة الأوروبية، واعتذرت شركة غازبروم عن خفض ضغط تدفّق الغاز، لوجود مصاعب في ملء مخازنها من الغاز، لكن، وفي الواقع، يعتبر الإجراء إشارة واضحة لبروكسل، لتدرك ما ينتظرها، حال مواصلة سياسة الحصار الاقتصادي، وقد تطالب الشركة الروسية الأوروبيين بدفع قيمة الغاز مسبقاً، كي تحصل عليه، وخصوصاً الدول التي تناصبها العداء جهاراً. في السياق نفسه، اضطرت بروكسل إلى تقديم ضمانات لموسكو بشأن تسديد ديون أوكرانيا المتراكمة لصالح شركة غازبروم. من الواضح أنّ الصراع الخفيّ بين روسيا والغرب قد أخذ منحىً مؤلماً للأطراف كافة، وروسيا، في نهاية المطاف، لا ترغب بإبقاء غازها الطبيعي مكدّساً في مستودعاتها، وفي باطن المساحات الشاسعة من الأراضي الخاضعة لسيطرتها، والغنية بالثروات المعدنية والنفط والغاز.
حرب الأعصاب والمناورات الجوية
استمرّت الطائرات المقاتلة الروسية، طوال المرحلة الأخيرة، بالطيران والتحليق المفاجئ فوق كامل دول الاتحاد الأوروبي، لتصل حتى المملكة المتحدة والبرتغال، وحلّقت دفعة واحدة فوق البحر الأسود وبحر الشمال وبحر البلطيق، بالقرب من الدول الأسكندنافية، ما أدّى إلى ارتفاع طائرات حلف الأطلسي في السماء، لمواكبة الطائرات الروسية في مسار طيرانها الاستفزازيّ، حتى عودتها إلى الأجواء الإقليمية الروسية. الطائرات العسكرية الروسية مقاتلة وبينها قاذفات قنابل ومتفجرات، وأبقت أجهزة التواصل الإلكترونية على متنها صامتة، الأمر الذي هدّد الملاحة المدنية، وحسب المتحدث باسم حلف الناتو، لم تخرق هذه الطائرات الأجواء الأجنبية، لكنّ عدد الطائرات المشاركة، وأماكن وجودها، في آن واحد، أمرٌ غير اعتيادي، لكنّ المتحدّث لم يوضّح كيف تمكنت هذه الطائرات من التوصل إلى الأجواء البريطانية والبرتغال، من دون أن تخترق الأجواء الأجنبية، والتزم الكرملين كذلك الصمت بشأن مناوراته الجوية. يدرك "الناتو" جيّداً عبثية هذه الطلعات، والتي لا تهدف سوى إلى رفع وتائر القلق الدولي، وإبراز القدرة على الوصول إلى أماكن ضعف هذا الحلف وقوته، واستفزاز القارة الأوروبية. لذا، حاول "الناتو" جاهدًا التخفيف من الأثر الإعلامي للمواجهات والتحديات الجوية الروسية التي تقوم بها بين حين وآخر.
تجدر الإشارة إلى أنّ دول أوروبا الشرقية لا تملك الأسلحة الجوية المتطورة، لمواجهة هذه الطائرات، وإجبارها على الابتعاد عن أراضيها، ومسحت طائرات مقاتلة تركية ورومانية الأجواء المشتركة والمياه الإقليمية للبحر الأسود، بما في ذلك الأجواء البلغارية، لعدم امتلاك هذه الدولة لطائرات قادرة على تمييز الصديق من العدوّ، والطائرات البلغارية ما تزال من طراز ميغ 29 يشرف على صيانتها فنيّو سلاح الجوّ الروسي. وارتفعت في الأجواء كذلك المقاتلات الألمانية والنرويجية والبريطانية. كما نرى، تحاول روسيا جاهدة الإبقاء على ممارسات سياسة شدّ الحبل، من خلال هذه الطلعات الجوية المتكررة، وتوتير أعصاب وزراء الدفاع الأوروبيين الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على توجيه تصريحات معادية لروسيا، ليستغل جيرينوفسكي، الزعيم القومي الروسيّ المتشدّد، الفرصة ليطلق تصريحاته النارية ضدّ الرئيس البلغاري، روسن بليفنيلييف، والذي صرح للصحيفة الألمانية "فرانكفورتر ألغيماني تسايتونغ" إنّ روسيا دولة قومية عدائية، ووصفه جيرينوفسكي بالرئيس غير السويّ والعميل للاستخبارات الأميركية، وطالب الشعب البلغاري الوفيّ لروسيا بطرد رئيسه، كما هاجم دميتري روغوزين، نائب رئيس الوزراء الروسي وزير الدفاع البلغاري، فيليزار شالامانوف، متّهمه وحكومة الخبراء المؤقتة بخيانة روسيا. عدا عن الحرب الكلامية، نرى أنّ الطرفين يفضّلان تجنّب تصعيد المواجهة المباشرة، بسبب الاعتماد الحيوي المشترك على الأصعدة كافة. ونلاحظ كذلك أنّ قادة روساً عديدين يعتبرون معظم دول أوروبا الشرقية إرثًا، لا يمكن التنازل عنه، على الرغم من انضمام بعض هذه الدول لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، والأسباب كثيرة، أهمّها عدم قدرة هذه الدول الاستغناء عن اعتمادها المطلق على منابع الطاقة الروسية.
امتحان مفاجئ لردود الفعل الغربية
تخشى روسيا حقيقة اقتراب نفوذ الناتو إلى عمقها الاستراتيجي، وترى في زيارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أخيراً إلى أستوينا تحدّياً واضحاً لنفوذها، واقترابًا غير مرغوب به إلى أراضيها. وصرح فكتور ليتوفكين المحرر العسكري لوكالة تاس الحكومية لصحيفة كريستيان ساينس مونيتور إنّ على روسيا أن تتحرّك، على الفور، لأنّ الناتو يقترب من حدود الفدرالية الروسية، وليس العكس، وعلى الأرجح، فإنّ بوتين يفكّر بهذه الطريقة، والموقف ليس إيحاء من ليتوفكين، بقدر ما يكون استراتيجية عامة مشتركة للقادة الروس. كما اعتبرت روسيا المناورات الضخمة التي قامت بها المقاتلات الأميركية، حيث حلقت خلال 24 ساعة فقط فوق غرينلاند، وعرّجت، بعد ذلك، في الاتجاه الغربي لتعود إلى مواقعها عبر ألاسكا، اعتبرت ذلك بمثابة محاكاة لحرب نووية، ما اضطر الطيران الروسي القيام بطلعات جوية فوق كامل القارة الأوروبية، بتاريخ 28، 29 أكتوبر، لكنّ الغربيين يرفضون وجهة النظر الروسية، ويربطون التحدّيات الجوية الروسية مباشرة بالأزمة الأوكرانية.
ترغب روسيا، من دون شك، بأن تبرهن لـ"الناتو" قدرتها على إتقان لعبة الكرّ والفرّ، معتبرة هذه الطلعات بمثابة امتحان لآليات العمل واستعدادات الحلف، ودول أخرى، كالسويد وفنلندا، للمواجهة وقياس سرعة وصول المقاتلات الهجومية، والتنسيق ما بين سلاح طيران دول التحالف. وأفادت هذه الامتحانات بعدم قدرة طائرات الحلف على المواجهة العاجلة، وأثبتت ذلك الطلعات الجوية الروسية فوق أجواء ستكهولم في ربيع العام 2013، وتمكنت هذه المقاتلات من تنفيذ مهامها، قبل أن تنطلق الطائرات السويدية من قواعدها، بسبب الانشغال بأعياد الفصح المجيد، ولم يوجد في القواعد العسكرية السويدية، في تلك الأثناء، مناوبون لرقابة الأجواء السويدية، وساعدت هذه الأحداث في تغيير وجهة نظر فئات الشعب السويدي لصالح الناتو، وارتفعت نسبة الراغبين في السويد للانضمام لحلف الناتو لقرابة 37% في مقابل 36% ضدّ الانضمام للحلف، علماً أن نسبة الرافضين لانضام البلاد للحلف، قبل خمسة أشهر فقط، قد بلغ قرابة 56%. ويدل هذا التغيير على رغبة الشعب بإيجاد آليات لحمايتهم من الاعتداءات الخارجية، وكذلك الأمر في فنلندا المجاورة لروسيا، والدولة غير العضو للناتو حتى اللحظة.
وتفرض التحديات الروسية العسكرية وجوداً أكبر لقوات الناتو في أقاليم عديدة، وخصوصاً في دول البلطيق، حيث يوجد حاليًا في هذه الدول أربعة أضعاف المقاتلات التي كانت قبل نحو العام، وذلك وفقًا لتصريحات الأمين العام للناتو، ينس ستولتينبرغ، لصحيفة وول ستريت. وتتطلب هذه الإجراءات المزيد من الموازنات المالية، وترغب بولندا شراء طائرات من دون طيّار "درون" ضمن برامج الدفاع الذكيّ، وتماشيًا مع سياسة تحديث الجيش البولندي، كما صرّح وزير الدفاع البولندي، تشيسلاف مروجيك، لوكالة فرانس برس "إنّ جميع هذه المؤشرات تؤكّد بدء مرحلة سباق التسلّح على المستويات كافة". ومهما بلغ حجم التجهيزات العسكرية لدول الناتو، فإنّ هذا لن يردع روسيا عن الاستمرار بالتحليق في أجواء أوروبا من دون أن تتحول هذه المطاردات والمعاكسات إلى مواجهة جادّة، على الرغم من الخطر الكامن على الملاحة المدنية، وسيقرّر "الناتو"، في مؤتمر القمة في ديسمبر/كانون أول المقبل، كيفية التعامل مع السلوك الروسي، وتحديد الإطار الدبلوماسي المتوقع، للردّ على التحديّات الروسية.
انخفاض قيمة العملة الوطنية الروسية
اشتدّت الحاجة الماسّة للحصول على العملة الصعبة في روسيا، وخصوصاً من عملاقيّ الطاقة الروسية، شركة "روس نفط" و"غازبروم" التي تتحكم بصحيفة "كوميرسانت"، ووفق هذه الصحيفة، تطالب شركة "روس نفط" بدفع قيمة منتجاتها 100%، قبل تصديرها إلى دول الاتحاد الأوروبي، وقدّمت هذه المقترحات رسمياً للرئيس فلاديمير بوتين، وأرسل الكرملين هذه المقترحات إلى الوزارات المعنية التي أكّدت أنّ ما ذكر من بيانات يتنافى مع حقيقة الأوضاع المالية للشركتين، ما يعني رفض إدارة بوتين تقديم الدعم المالي لشركتي روس نفط وغازبروم اللتين باتتا رهينتين للمشكلات والمواجهات السياسية الرسمية مع الغرب.
وتشير بيانات وكالة Platts (المزود الرئيس لبيانات الطاقة حول العالم) إلى ارتفاع موقع شركة "روس نفط" من المرتبة التاسعة إلى السادسة في قائمة الشركات العالمية المئتين والخمسين الرائدة في مجال الطاقة، لكنّ، على الرغم من ذلك فإنّ مشكلات هذه الشركة المالية في ارتفاع متواصل، حيث بلعت ديونها في سبتمبر/ أيلول الماضي نحو 56 مليار دولار، وتعود الأسباب وراء ارتفاع هذه الديون إلى انخفاض قيمة العملة الروسية "الروبل" بنسبة 16.4% في الربع الثالث من العام الجاري. عملياً، 90% من ديون هذه الشركة بالعملة الصعبة، وصرّح بهذا الشأن وزير الاقتصاد الروسي، ألكسي أوليوكائف، إلا أنّ طلب الشركة للحصول على مساعدات حكومية تتعارض مع شروط قطاع الاقتصاد، وأنّ الشركة تحاول جاهدة إخفاء مشكلاتها المالية. ولم تبد غازبروم رغبة جادّة بمطالبة شركائها بدفع قيمة الغاز مسبقًا، فالأوروبيون يدفعون فواتيرهم بانتظام، باستثناء أوكرانيا، لأسباب لا تخفى على أحد، وبغض النظر عن السجال والصراع بين الشركتين العملاقتين، إلا أنّ المشكلات المالية، واتساع مجالات الحصار الاقتصادي المعلن ضدّ روسيا، أدّى إلى ظهور هذه الصعوبات والتعقيدات.
خسائر الاقتصاد الروسي في أوكرانيا
بعد انقضاء عام على اندلاع الأزمة الأوكرانية، تبيّن أنّ البنوك الوطنية الروسية خسرت قرابة 25 مليار دولار في أوكرانيا، وهي قيمة الأصول المالية للبنوك والشركات التابعة لها في أوكرانيا، ونوقشت المسألة في إحدى جلسات المجلس الوزاري، برئاسة رئيس الوزراء الروسي، دميتري ميدفديف، وإذا كانت هذه البيانات صحيحة، فإنّ البنوك الروسية المعنية ستجد مصاعب جمّة بشأن تغطية المتطلبات القانونية المالية في روسيا. وحضر الاجتماع المذكور نائب رئيس الوزراء، إيغور شوفالوف، وزير المالية أنطون سليوآنوف، وزير الاقتصاد ألكسي أوليكائف ورؤساء أكبر خمسة بنوك حكومية، وحسب أحد المشاركين في الاجتماع، هناك إمكانية لوقف تمويل القروض السيئة للشركات والبنوك التابعة في أوكرانيا والتي تتحمل نصف العبء المالي المذكور (قرابة 12.5 مليار دولار). لكن، هناك بنوك روسية لن تتمكن من الاستمرار في تأدية أعمالها بشكل طبيعي، من دون الحصول على مساعدات حكومية، كبنك VTB الذي يمتلك أصولاً في دول عديدة في أوروبا الشرقية، وكذلك مصرف سبيربنك. كما أثرّت هذه الأزمة على إمكانات هذه البنوك ورؤوس الأموال الكبرى للاستثمار في البنوك الأجنبية، بسبب الحصار الاقتصادي، وهي خسائر تطال الأطراف، الروسي والأوروبي والأميركي، على حدّ سواء.