"نوبل" الطمأنينة

14 أكتوبر 2014

موديانو يتحدث للصحافة في باريس بعد فوزه (9/أكتوبر/2014/Getty)

+ الخط -

جائزة نوبل للآداب التي منحت، الأسبوع الماضي، للكاتب الفرنسي باتريك موديانو، مطمئنة! وجانبها المطمئن ينسحب، بالقدر نفسه، على المستوى الفرنسي، إذ يشكّل صفعة غير مباشرة لنجوم الساحة الأدبية الفرنسية المستحدثين، من نوع برنار هنري ليفي، فريديريك بيغبيديه، غيّوم موسّو، أو مارك ليفي. كما على المستوى العالمي، إذ إنها كافأت، مرة أخرى، ما تصحّ تسميته، واليوم أكثر من أي وقت مضى، بالأدب الحقيقي، أي ذاك الذي يكتب من دون أن تشغله الأضواء، أو الشهرة، أو العالمية، أو صَرعات "ما بعد الحداثة" بمختلف تنويعاتها وتهويماتها.
وفي فوز موديانو بأهمّ جائزة أدبية على الإطلاق درسٌ يعطى لكتّاب العالم أجمع. فقد كان مؤثراً جداً أن نرى الكاتب مندهشاً، خجلاً، غير مصدّقٍ خبر فوزه، هو الذي ألّف ثلاثين رواية، وترجمت أعماله إلى 36 لغة، وسبق أن نال أهم الجوائز الفرنسية، كجائزتي غونكور والأكاديمية الفرنسية. أن نراه يطلق جملاً تبقى معلّقة في الهواء، جملاً يسودها الصمت، أكثر مما يسودها الكلام، تردّد كاللازمة مفردة "غريب"! غريب أن تختاره لجنة نوبل، وغريب أن يقترن اسمه باسم من سبقوه إليها من الفرنسيين، وعلى رأسهم ألبير كامو الذي نالها حين كان موديانو مراهقاً ومعجباً جداً به!
يرتبك موديانو ويتلعثم، لا انفعالاً أو حماسةً أو تأثراً، بل خجلاً وتواضعاً، كمن تهرب منه الكلمات في لحظة فجائية، هي ليست لحظة تكريسه وفوزه، بقدر ما هي لحظة دفعه إلى الوقوف على أرضٍ، لا يتقن لغتها، ولا يعرف فكّ شيفرتها، أرض الأضواء والميكروفونات والكاميرات والادّعاءات. 
ينحو العالم الحديث إلى تحويل الأدب إلى صناعة، ويباهي أرباب هذه الصناعة، الناشرون منهم والموزّعون والمسوّقون، بكون الكتاب سلعة كغيره من السلع، تحتاج دعاية وترويجاً. يقولون ذلك، فلا يقتنع الكتّاب فحسب، بل يتهافتون إلى أداء دور السعادين المدرّبة التي تجيد الرقص على كل نوطات السلم الموسيقي، وذلك بغضّ النظر عن امتلاكهم، أو عدم امتلاكهم، موهبة الكتابة. ومَن انكفأ وامتنع لعلّة حقيقية فيه، وليس فقط لموقفٍ فلسفي، أو فكريّ، أو دفاعاً عن فكرة بائدة عن الأدب، قيل إنه يؤدّي دور "الكاتب الملعون". والحال أنه لا يؤدّي، بل هو، ببساطة، غير معنيّ سوى بهمّه الأدبي، أو أنه معلول فعلاً، اجتماعياً على الأقل، وعلى طلاق بكل ما هو "سويّ" من حوله... لا، لن يقال إنه ملعون، فهذا أكثر مما يستحقّ، الأحرى أن الصمت سيطبق من حوله، فهو كالمصاب بالسلّ أو بالجذام، سيعاقب بأن يوضع على الرفّ، فيُهمَل ويُحيَّد ويُنتسى، في حين سيتم تخاطف "الأدبيين الجدد"، الأكثر مهارة في أصول "التمظهر الأدبي".  
"نوبل" التي يحلم بها كل كاتب في سرّه، مهما علا شأنه أو صغر، مُنحت لباتريك موديانو، وقد أظهرته بعض المقابلات في مكتبه الفسيح، محاطاً من الجهات الأربع، ومن السقف، إلى الأرضية، بكمّ هائل من الكتب المتحاشرة، يزيّنها سلّم معلّق بسكّة حديدية، تتيح تنقله من جدار كتبيّ إلى آخر. موديانو الذي يفبرك الجمل والأفكار والعوالم، همس في بياض الصمت الذي يوقّع جمله، أنه لا يجيد الكلام، أن الكتابة هي عالمه فقط، وأن الجائزة هذه، على أهميتها، تربكه، إذ تقطع عنه أوكسجين دواته وحبره.
هكذا، حين سأله الصحافي "لا بد وأن الجائزة ستغيّر الكثير في حياتك الآن"، بدا مستغرباً للسؤال، متلعثماً كعادته، قبل أن يجيب متفكّرا: "أجل... لا أدري... إنما ستبقى الأسئلة المطروحة والمتعلّقة بالكتابة هي نفسها". وقد بدا عليه أنه يستعجل في سره تحوّل الأنظار عنه، ليعود سريعاً إلى أوراقه، حيث أشباح طفولته المعذّبة، الأبوة المفقودة، شخصياته الضائعة الباحثة عن هوية، وذاكرة شوارع باريس خلال الحرب العالمية الثانية، وتحت الاحتلال النازيّ.

 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"