20 سنة من الاستبداد وإليه
مع اقتراب الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق، يستحضر الذهن خواطر عديدة، لعلّ أقربها التفكير بالخطّ البياني لنمو السياسة في العراق على مدى عقدين من تجربة وُصفت بـ"الديمقراطية"، تنقض، كما يفترض، ما سبقها من تجارب سياسية عراقية، اتّشحت بسواد الاستبداد والديكتاتورية والتفرّد بالقرار.
كان مثيراً، في تلك الأيام الأولى لما بعد التاسع من إبريل/ نيسان 2003 أن نرى افتتاح الحزب الشيوعي العراقي مقرّه الرئيس نفسه الذي صودر منه إبّان حكم "البعث" قرب ساحة الأندلس وسط بغداد، ليس بعيداً عن تمثال صدّام حسين في ساحة الفردوس الذي أسقطه الأميركان.
لكن، في بناية في مدخل شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي، وأمام الضفّة الثانية لأطلال محلات جقماقجي للأسطوانات الموسيقية، وهو معرض الشركة العريقة التي أسّست مطلع القرن العشرين، كنّا نرى رقعة كبيرة للحزب الشيوعي العمّالي، الذي عرفنا في ما بعد أنه منشقٌّ عن الشيوعي الأصلي، ويحمل أفكاراً أكثر تطرّفاً وراديكالية. ولم يكن هذا الحزب الصغير يؤمن بصحّة قرار الشيوعي العراقي بالاشتراك في العملية السياسية، وأن عليهم العمل في الشارع ومقاطعة العملية السياسية التي يديرها الأميركان.
بعد 20 سنة، اختفى هذا الحزب (الشيوعي العمّالي)، واستمرّ الحزب الشيوعي العراقي في الهامش السياسي الذي صنعه بالكاد، فلم يحصل هذا الحزب العريق على مساحةٍ في العملية السياسية توازي تاريخه الكبير، وكونه عميد الأحزاب العراقية، وكان في يومٍ ما يستولي على أكثر من نصف الشارع السياسي العراقي.
في تلك الأوقات، وعشيّة أول انتخابات عراقية، كان المشهد السياسي أكثر تنوّعاً، وكان من البديهي الزعم أن هناك تنظيمات سياسية تتوافق مع التنوّع والتعدّد في المجتمع العراقي، فهناك أحزاب دينية أصولية شيعية وسنيّة، وهناك أحزاب دينية "ليبرالية" أو معتدلة، تعمل جنب أحزاب ذات أنفاس قومية عروبية أو قومية كردية وتركمانية، ورأينا أحزاباً ترفع لواء الليبرالية أو اليسار.
عملت الدورات الانتخابية المتكرّرة عمل الغربال، فأسقطت من ثقوبها تنظيمات سياسية عديدة، أو أدمجتها مع أخرى أكبر منها، لكنّ الأميركان والإيرانيين ساهموا بشكل كبير في تحديد بوصلة السياسة، ودفع بعض الأحزاب إلى الواجهة، وبالتالي مكّنتها من مصادر الثروة والتأثير الإعلامي. كما أنّ الرؤية الطائفية حكمت، منذ البداية، بترسيمة محدّدة، تجعل كل العناوين السياسية والفكرية ثانويةً أمام الهوية والانتماء الطائفي. ومن سخرية القدر أنّ الحزب الشيوعي العراقي، مثلاً، وهو علماني بالضرورة، قَبِل أن يأخذ مقعداً من الحصّة الشيعية في مجلس الحكم الذي أسّسه الحاكم الأميركي، بول بريمر، في الأشهر الأولى بعد إطاحة نظام صدّام.
التنوّع السياسي والاعلامي، والذي كان العمود الفقري لشرعية النظام السياسي الجديد، صار يتآكل تدريجياً، حتى صحوْنا على مشهد جديد بعد الغزو الداعشي لشمال العراق، حيث سيطرت التنظيمات المسلحة على العملية السياسية بصورة شبه كاملة، ورأينا أحزاباً كبيرة كانت تُمسك عملياً بزمام السلطة في العراق، مثل حزب الدعوة تتراجع الى الخلف لصالح التيارات السياسية الجديدة الأكثر راديكالية، والتي لا تمثل في الحقيقة سوى واجهات سياسية لتنظيمات عسكرية.
أعادت هذه التيارات إنتاج العملية السياسية في العراق، وأعادت تعريف السلطة وشكل النظام الديمقراطي، وبدا واضحاً أنها مصمّمة على تجريف التجربة السياسية بالكامل، وإقصاء المعارضين والناقدين، ومنع ظهور المنافسين السياسيين. وكان من الطبيعي أن تتعامل بعنف وقسوة لا مثيل لها مع الاحتجاجات الشبابية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019. وعلى الرغم من إقالة حكومة عادل عبد المهدي التي كانت تدعمها، فقد ظلت مستمرّة مع حكومتي مصطفى الكاظمي السابقة ومحمد شيّاع السوداني الحالية.
بعد 20 سنة من إزاحة نظام استبدادي كتم على أنفاس الشعب العراقي عقوداً، تعيش الغالبية من الشعب العراقي تجربة مشابهة اليوم، تحت وطأة قبضةٍ استبداديةٍ تحبس أنفاس المدوّنين على مواقع التواصل الاجتماعي، وتُقصي المخالفين والمعارضين وتطردهما. وتستولي (بالقانون وضدّه) على كل مقدّرات البلد وتسخّرها من أجل مزيد من القهر والبطش وشراء الذمم والتغييب والملاحقة والتصفية، وصرنا نسمع، مثلاً، من يتساءل بحرقة وألم: إذاً... لماذا هلّلنا لإسقاط نظام صدّام، يا تُرى؟!