الموت في زمن الحرب

25 يوليو 2018
+ الخط -
أنْ تعيش في منطقة مشتعلة يعني أن تتوقّع الموت في كلِّ لحظة، في كلِّ لحظة من الممكن أن تضيء السماء بلونٍ أحمر قانٍ، يُنذر بأنهارٍ قادمة من الدم، ثم تصبح الأشلاء حولَك في كلِّ مكان، وتسمع صوتا مبحوحا، لكنَّه عالٍ يُقَشْعِر الأبدان، وهو ينادي بضرورة البحث عن أكياسٍ سوداء لجمع الأشلاء، وبعضُهم ينهاه عن تلك الفكرة؛ لأن الأمر أصبح عاديًّا، أو لا جدوى منه، ومع هذا كله، فالحذرَ كلّ الحذرِ من هؤلاء الذين يقرِّرون الموت موتًا شخصيا في زمن الحرب.
كثيرون يخطئون حين يختارون توقيتاً لموتهم في زمن الحرب، لا أحد سوف يلتفت إليهم، وربما هم قد كرهوا الحياة والآخرين؛ فاختاروا هذا التوقيت بالذات ليموتوا، لا يريدون الدموع، ولا الحسرة، ولا لفت الانتباه، فكلُّ شيءٍ عندهم تساوى مع فكرة الخروج من الحياة إلى عالم آخر، ولم يعرف أكثرُ من ماتوا ماذا حدث، حين وقعوا، والحرب تصفر برياح شؤمها، في كلِّ مكان، ومذيعة بصوت يشبه الصفير قد أنهت للتوِّ إعادة طلاء أظافرها، تُعدِّد أسماء الشهداء الذين وصلوا إلى المشفى، وتكتشف مذيعةٌ أخرى أن أحد الشهداء يمتُّ بصلة قرابة لها.
كان الكاتب والشاعر حسين البرغوثي في مشفى رام الله الحكومي يعاني موتاً حقيقياً، وهو ينتظر نتيجة فحوصاته التي تؤكِّد، أو تنفي، إصابته بالسرطان، وحين كان يحثُّ الأطباء والممرضات على ضرورة الانتباه إليه، والإسراع في الخروج بنتيجة تحاليله زَجَرَتْه الممرِّضة بقسوة، وذلك في أثناء انتفاضة الأقصى، حيث كان الموت يعربد على كلِّ مشهد صغير وكبير، فجثث الشهداء تنقل إلى المشفى، والجرحى الذين يصارعون الموت يتكدَّسون. وأمام هذه اللوحات الدامية، لم يتلفَّت أحد لشاعر، مثل حسين البرغوثي، بل زجرته الممرِّضة، وهي تطلب منه الانتظار، وفي الحقيقة أن الشاعر الشاب كان يصارع موتا آخر لم يلتفت إليه أحد.
يخطئ هؤلاء بشدَّة في سوء اختيار التوقيت، فهي كانت قد خرجت من معركةٍ يومية معتادة مع زوجها العاطل من العمل، وبعد أن لكمها في وجهها؛ فأصابت اللكمة عينها اليمنى، وحوَّلت لونَها إلى أزرق قبيح، في حين أن وجهها ناصع البياض امتلأ بآثار الدموع المختلطة بكحل عينيها الأسود، فقد وقفت في صالونها الصغير الذي افتتحته، من دون إرادة زوجها؛ بحثا عن مصدر رزق، وكانت تسمع أصوات القصف، من بعيد، وفيما زهدت الزبونات في محلِّ الكوافير الذي لم ينل شهرة بعد، وقلَّت الأرجل النسائية الوافدة إليه، ولم يطرق الباب الزجاحيَّ الذي تُزيِّنه لوحةٌ مقشوطة لامرأة جميلة بأصباغ كثيرة على وجهها، وتسريحة شعر مرفوعة، لم يطرق هذا الباب سوى صاحب البناية، وهو يطلب الأجرة الشهرية للمكان، ويذكِّرها بأنَّ عليها دفعَ اشتراك فاتورة الماء، وكذلك اشتراك مولِّد الكهرباء الذي يزوِّد البناية بالكهرباء، في ظلِّ انقطاع الكهرباء العمومية. ولذلك وقفت أمام حوض الماء الكبير، ونظرت إلى يديها اللتين تزيِّنهما الحِنَّاء المنقوشة بخطوطٍ بدأت تبهت، مثل أيام حياتها الباهتة، حانت منها التفاتةٌ إلى الأرجل التي تهرب من صوت القصف والموت المتوقَّع، والتي تراها من أسفل الباب، ونظرت إلى اللكمة الزرقاء قميئة المنظر في وجهها، وتناولت مقصَّا حادًّا، استخدمته في اليوم السابق في قصِّ شعر زبونةٍ مغرورة، ظلَّت تجادلها ساعةً؛ لكي تنقص من أجرتها قروشا قليلة، في لحظات كان حوض الماء يمتلئ بالدماء، ودارت بها الأرض، ثم وقعت، وبعد ساعةٍ كانت تصل إلى المشفى، ولم يلتفت إليها أحد، في حين اقترب من جثتها طبيبٌ شاب، وقرَّر أن يكون رحيما؛ فكتب في تقريره إنها قطعت شريانها بالخطأ؛ نتيجة إصابتها بالهلع من أصوات القصف المحيطة بالمكان. كان التوقيت غير مناسب لأبناء الوطن الناعين لشهداء الوطن، أما هي فكانت واثقة أنها اختارت التوقيت المناسب؛ لتنهي حياتها، موتها يُعَدُّ أمراً شخصياً بحتاً لا يهمُّ أحدا، لم تفكِّر سوى باللكمة الزرقاء القميئة، ولم تفكِّر بحصَّتها من دموع الآخرين، ولا اهتمامهم برحيلها.
دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.