19 عاماً على ضياع العراق

12 ابريل 2022

جندي من مشاة البحرية الأميركية جنوبي بغداد (6/4/2003/Getty)

+ الخط -

على عادتها، جاءت تلك الذكرى المؤلمة، ذكرى احتلال العراق في 9 أبريل/ نيسان عام 2003، ما زالت قادرة على أن تحرّك كل الذكريات وتشعل لهيب جمرة ما فتئت تتّقد كلما يمرّ بها مشهد من مشاهد دبابات الغزو وهي تدوس أرض بغداد، معلنة بداية عهدٍ جديد ليس في العراق فحسب، وإنما في المنطقة، وربما في العالم برمته. فقد داست أميركا، وهي تدفع رعاعها إلى أرض العراق، ما تبقى لها من قيم ديمقراطية كنت تنادي بها، حيث حملت الأكاذيب؛ صقور بيتها الأبيض لتحطّ غازية ضد بلد ادّعت أن نظامه يملك أسلحة دمار شامل، وأنها قادمة لتغييره واستبداله بآخر ديمقراطي سيكون منارة لدول المنطقة. غير أن ما جرى بعد ذلك لم يكن أكثر من فوضى خلاقة أو غير خلاقة، سمها ما شئت، عبثت بأرض العراق، وامتدّت لترمي بشررها إلى مناطق أخرى من شرق أوسط؛ ما زالت نيران صراعاته متّقدة لم تنطفئ.
تأتي الذكرى التاسعة عشرة لاحتلال العراق، وهو يعاني من واحدةٍ من أسوأ أزماته السياسية، تلك التي خلفها المحتل وأدواته، عبر عملية سياسيةٍ، لا يمكن وصفها إلا بأنها كانت وصفة للتشرذم والاقتتال والفوضى، عملية سياسية فُصّلت على مقاس قوى وأحزاب، جمعتها ذات يوم واشنطن من مناف متفرّقة، وأوجدت لها كيانا ما كان له أن يكون لولا دعمه له، ونصّبتهم على مقاليد حكم بلد يستحقّ شعبُه واقعا أفضل، أفضل مما كان عليه قبل الغزو، وبالتأكيد أفضل مما صار إليه.
تعاني العملية السياسية صنيعة الاحتلال، من انسدادٍ سياسيٍّ لم يسبق له مثيل، فقد تشرذم الإخوة الأعداء، وتفرّقت أهواؤهم وتقاتلوا على مغانم بلدٍ يطفو على ثروات هائلة، وإذا كان صراع أدوات المحتل بدايةً؛ مذهبيا وعرقيا، فإنه تحوّل، بعد 19 عاما من الغزو والتدمير، إلى صراع الضد النوعي، ذلك الذي يشي بأن القادم قد يكون أكثر قتامة، وأن سنين العراقيين في رمضاء الحرب والحصار والاقتتال الطائفي لم تكن كافية لترتوي أرض الفراتين بدم أبنائها، فها هي خلافات "أبناء المذهب" تُنذر بعاصفة اقتتالٍ جديد، عاصفةٍ إن قيض لها أن تهبّ هذه المرة، فإنها لن تبقي حجرا على حجر، لتأكل ما بقي من أخضر أرض السواد.

19 عاما من الاحتلال الأميركي، خلف وراءه قوى وأحزابا ومليشيات ودولة ليس لها من اسمها شيء

ليس هنا موضع عمل جردة حساب لما وقع من خراب بعد 19 عاما من الاحتلال، فعناوين الخراب أكثر بكثير من أن تسعها كلمات هذا المقال، وهي أكثر دلالةً من أن يشار اليها، وإنما هو السعي هنا إلى استشراف ما يمكن أن تؤول إليه الأمور، بعد أن دقت الخلافات أسفينا بين حلفاء الأمس الذين لم يدّخروا جهدا في دعم الغزاة، وهم يدكّون مدن العراق، معلنين عن فرحتهم بـ"التحرير"، حتى عمل بعضهم على محاولة فرضه يوما وطنيا، ولك فقط أن تتخيّل حجم ما كان عليه سدنة الغزو ورعاته من وضاعة وضياع بوصلة.
19 عاما من الاحتلال الأميركي، خلف وراءه قوى وأحزابا ومليشيات ودولة ليس لها من اسمها شيء، وجيشا فاقدا للهيبة وفسادا حول أنهار النفط الجاري تحت أقدام العراقيين إلى مليارات تتجوّل في مصارف العالم، بعد أن سطا عليها أرباب السياسة والمليشيات الحزبية، تاركين للعراقي أن يجد طريقه في لجّة هذا الخراب، للعيش والتأقلم مع واقع أقلّ ما يقال عنه إنه دفع بكل أولئك الذين رقصوا ابتهاجا بتغيير النظام، إلى أشد المدافعين عنه، ولم يعد في الأمر سر، ولا ما يمكن أن يخيف، فهذه الدعوات والرحمات، يطلقها اليوم ابن الجنوب، ذلك الذي أقنعوه، ذات خديعة، بأنهم جاءوا بالأميركي محتلا، حتى يمنحوه حقه من خيرات هذا البلد التي صادرها النظام السابق، وإذا بهم لم يسلّموا حتى الذي كانوا يسمونه فتاتا.

يجد العراق نفسه ضائعا في صراع أضداد السياسة، فلا قدرة للشعب على أن يقود التغيير المنشود

تسير سفينة العملية السياسية في بحر من الظلمات، فلا مقتدى الصدر يقبل خصومه الشيعة من الإطار التنسيقي أن يكونوا شركاء له في حكومةٍ يريد أن يشكلها بعيدا عنهم، ولا قوى هذا الإطار التي عُرفت بموالاتها الشديدة لإيران تقبل بأن يكون الصدر المتحكّم في المشهد السياسي من خلال تسميته رئيس الحكومة. وما بين التيار والإطار، تقف القوى السُنية والكردية بانتظار ما ستسفر عنه جولة الصراع "الشيعي – الشيعي"، فهي لا تريد أكثر من أن تحافظ على وجودها وما لها من استحقاق انتخابي ومكوّناتي، لا غير.
يجد العراق نفسه ضائعا في صراع أضداد السياسة، فلا قدرة للشعب على أن يقود التغيير المنشود، التغيير الذي لم يكن له فيه يد عندما وقع عام 2003، فلقد جرّبت الجموع التي خرجت في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 أن تطالب بوطن، وجرّبت قبل ذلك في ست محافظات أخرى، ولم تلق سوى الرصاص والتغييب والتهجير لغة، من أولئك الذين زرعتهم أميركا ليبنوا عراقا ديمقراطيا سيكون مركز إشعاع في المنطقة.
ستأتي السنة الأخرى من عمر العراق بعد غزوه، ولا بارقة أمل في أن يكون قد وجد ذاته التي غيّبتها سنوات الاحتلال وما رافقها، ولكن الأخطر أن تأتي تلك السنة الأخرى وقد ضربت فوضى السلاح المنتشر بقايا وطنٍ ما زال يبحث في ركام سنواته؛ عن مخرج.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...