يوم انفجرت بيروت بوجوه أبنائها
يقولون إن الوقت كفيل بتضميد الجراح .. بتقليل نسبة الحزن .. الخوف .. الألم. لكن ذلك كله لا يبدو صحيحاً. عام ثانٍ مرّ على ذكرى انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020، يفترض بعضهم أنه وقت كافٍ للتعافي أو أقله بدء هذا المسار. لكن ما جرى بالنسبة لكثر، تحديداً من كانوا في بيروت لحظة انفجرت المدينة في وجوههم، يبدو كأنه حدث بالأمس. دويّ الانفجار لا يُمحى من الذاكرة، يمكن لأي صوت قوي أن يعيد مشاهد تلك الدقائق.. ولأي حريق كذلك. على مدى الأسابيع الماضية، اضطرّ كثرٌ لمعايشة التجربة مرّات ومرّات. كلما اشتدّ حريق أهراءات المرفأ المتصدّعة وتصاعد دخانها حضرت مشاهد الانفجار. وحده لون الحريق الأسود الذي ملأ سماء المنطقة المحيطة بالمرفأ، مراراً وتكراراً، كان "مطمئناً"، فطالما أنه لم يتحوّل إلى الأبيض، كما يوم الانفجار، لا بأس .. سننجو .. لو تحطّمت الأهراءات كاملة .. ولو أننا محطمون من داخلنا .. لو أننا ما زلنا نبحث عن العدالة كما يسمّيها بعضهم بينما في الحقيقة ما نبحث عنه القصاص من أولئك المجرمين الذين سهلوا، تواطؤاً وإهمالاً، حدوث الانفجار. شهرًا تلو شهر، يزداد العداء للطبقة الحاكمة، لأنها تحمي القتلة وتمنع محاسبتهم. حتى أهالي الضحايا لم يسلموا منها، وامتدّت مؤامراتها إليهم، فقسمتهم على أمل أن يصمتوا عن حقهم، بينما لا تزال أشلاء أبنائهم وأخوتهم وآبائهم في المرفأ. وكأن تدمير المدينة لم يكفهم. تمّ تحويل المدينة إلى أشلاء متناثرة وأرواح هائمة. يصعُب تخيّل العلاقة نفسها بين بيروت وأبنائها ما قبل الانفجار وما بعده. هو شعور يمتزج فيه العتب بالأسى بالغضب على ما جرى يوم 4 أغسطس/ آب وكل ما تلاه. المدن تنشأ وتتطوّر بناسها، تُنسَج تلك العلاقة المميزة التي تجعل الارتباط بها مسلماً به والبعد عنها مؤلماً. لكن بيروت اليوم طاردة. وكأن الانفجار كان تلك اللحظة التي أشهرت فيه نهاية علاقة الانتماء إلى هذه المدينة. تحولت إلى مدينة للخوف، للموت، للدمار الماثل إلى اليوم على واجهات المباني المدمّرة التي عجز أصحابها عن إعادة ترميمها، وفي نفوس أبنائها. لا عودة إلى الوراء ولا تقدّم إلى الأمام. الجميع عالق في لحظة الانفجار. والأزمة الاقتصادية لم تزد الأمور إلا بؤساً. لا كهرباء سوى ساعة في اليوم كل حين، لا ماء، لا إنترنت أو خطوط هاتف تعمل بشكل طبيعي. وأخيراً لا خبز. أصبحت الحياة فيها مشقة يومية منهكة.
تحتاج بيروت اليوم إلى الكثير لتتحسّن أحوالها، كما أحوال باقي المناطق اللبنانية. لكن الأهم حاجتها إلى العدالة. والأخيرة تبدو صعبة المنال، فالطغمة الحاكمة لا تزال قادرة، بسطوتها وتحكّمها بالحياة السياسية والاقتصادية والأمنية والقضائية، على المناورة لمنع تحقيقها. نجحت على مدار عامين في تعطيل التحقيق وحماية المتورّطين في الانفجار. حرمت الأهالي من أدنى حقوقهم. أمر لم يكن ممكناً استمراره لولا حالة الاستسلام التي تعمّ المدينة. لولا بضعة تحرّكات للأهالي، بأعدادهم المحدودة، لكانت الجريمة دخلت طي النسيان في الشارع. لم يرتق الحراك إلى حجم الكارثة. وكما كل شيء في هذا البلد، يبدأ كبيراً ثم يتراجع ويتراجع ويتراجع، حتى يتلاشى ويندثر.
ولتراجع زخم التحرّكات الشعبية أسباب عدّة، ترتبط بمن كانوا في الشارع منذ 2019 والأهداف المتعارضة، والفشل في الاتفاق على قائمة مطالب رئيسية تُخاض المعركة على أساسها في وجه المنظومة الحاكمة. وعوض أن يكون الانفجار لحظة تجمع، تعيد ترتيب الأولويات، تقصّر المعركة وتسرّع وتيرتها، كانت النتيجة عكسية.