يوسف الغزّي الجميل
إنه يوسف، الجميل، لا كما ورَد وصُوّر في الكتب المقدّسة، بل كما هو على حقيقته في قطاع غزّة. وله أمُّ بحضور قويّ، على خلاف يوسف النبي الذي يحضُر الأب، لا الأمّ، في الرواية التي تُسرَد عنه بفتنةٍ لا تُضاهى في القرآن الكريم.
لا يُرمى يوسف الغزّي في البئر، بل يُقتل. تقتلُه إسرائيل التي قتلت 2055 طفلا، بحسب إحصاء اليوم السادس عشر لحرب الإبادة التي تشنّها على قطاع غزّة ولا تزال، فلا حصانة للطفولة، بل استهدافٌ معلن. قال رئيس الدولة إسحق هيرتزوغ إنه لا يوجد مدنيون في غزّة. وثمّة من صدّقه لا داخل إسرائيل فحسب، وهم كُثر، بل ما وراء البحار، حيث التحريض على الفلسطينيين بلغ مداه، فإذا هم، وتحديداً حركة حماس، داعشيون، و"السكّان"، وهو وصفٌ سياسيٌّ فوقيٌّ ومتغطرسٌ، كونه يجهّل العدو، وهم في هذه الحالة الغزّيون، ويُطلق عليهم للقول إنهم أقلّ من أن يكونوا شعباً له حقوقٌ من أي نوع، فإذا هم الحاضنة التي أنتجت هذا "الإرهاب" الذي تجرّأ وهاجم جيش الدفاع الإسرائيلي وأدماه، وما كان يوماً جيشاً للدفاع، بل للعدوان والقتل الوحشي المنفلتٍ من كل عقال.
لك أن تسمَع نداء أمه الثكلى التي تتوسّل بأن يحضروه لها، فهي تريدُه كأي أمّ. أحلالٌ على يعقوب ألّا ييأس من روح الله في عودة ابنه يوسف حرامٌ على والدة يوسف الغزّي عندما عرفت أنه قُتل بأن يعود إليها لتراه، ويكبُر أمام عينيها؟! أحلالٌ على أطفال جنود يوشع بن نون أن يكبُروا آمنين في أحضان أمّهاتهم حرامٌ على أطفال الغزّيين المحشورين في 365 كيلومترا مربّعا فقط، بلا نوافذ في سجنهم الكبير؟!
كان محمّد الدرّة في الحادية عشرة من عمره في عام 2000. في الثلاثين من سبتمبر/ أيلول من ذلك العام كان عائداً مع أبيه إلى بيتهما، عندما داهمها الرصاص في شارع صلاح الدين في مدينة غزّة. كان في الحادية عشرة من عُمره عندما احتميا ببرميلٍ من الإسمنت علّ الرصاص يُخطئهما، لكن ذلك لم يُجْدِ، وكذلك صُراخ أبيه بالجنود بألا يطلقوا الرصاص الذي تواصل عليهما حتى قُتل محمّد أمام عدسة إحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية. الولد مات، الولد مات، هل يعرف هيرتزوغ محمّد الدرّة؟ هل أسِف على قتله؟ هل يعرف ويعترف أنه مدنيٌّ من الأساس؟! بعد نحو 23 عاماً من مقتله ها هو والدُه جمال الدرّة يقف عند جثّتي شقيقيْه مودّعاً، في مسجد شهداء الأقصى في مدينة رفح. كأن على عائلة الدرّة أن تُباد، لأن إسرائيل وقادتها ومناصريها وداعميها لا يعترفون لا بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وحسب، بل في كونهم مدنيّين أصلاً. والحال هذه تنشأ الحواضن لا لإنتاج الدواعش، بل المقاومين الذي حُشروا في زاوية الكون، ولم يعد لديهم خيارٌ سوى أن يدافعوا عن وجودهم نفسه.
لا نعود 70 عاماً إلى الوراء بل إلى 23 عاماً فقط، لنعاين الحالة الفلسطينية التي تراوح مكانها بين طفلٍ يقتل بالرصاص وآخر في القصف، من دون أن تستخلص إسرائيل الدروس بأن قتل الفلسطينيين باعتباره استراتيجيتها الوحيدة لإخضاعهم وتأبيد وضعهم سكاناً لا شعباً أصيلاً وجديراً بالحياة، يعني أن الدائرة ستُواصل التكرار وتتصاعد، حتى يفقد الجميع السيطرة عليها، وأن الإقرار بدولةٍ لهذا الشعب العظيم لن يكون منّة من إسرائيل، بل خضوعاً لمنطق التاريخ نفسِه الذي يُراد له أن يحذف الفلسطينيين من بين سطورِه وأوراقه، وأن سياسة الإنكار والغطرسة وحيونة العدو تعكس لاوعي الإسرائيليين المشوّه ونخبهم المنتفخة بأوهام القوة، فمن رأى الفلسطينيين حيواناتٍ بشرية لا يختلف عن معمر القذّافي وبشّار الأسد اللذيْن رأيا شعبيهما صراصير وحشراتٍ تستحق الإبادة.
نحن نريد يوسف كما أراده يعقوب، نحن أمّ الولد وأهل البلاد وأبناء الأرض، وعلى الإسرائيليين أن يعرفوا ذلك، ولنا أطفالٌ نراهم أجمل أطفال العالم. عندما يُشاهد الإسرائيليون فيديو تلك الأمّ التي فُجعت بطفلها، وهي متلهّفةٌ لمعرفة مكان وجودِه، عندما يتفهّمون لهفتها تلك وحزنَها الغاضب الذي لا يُشبهه حزنٌ في العالم، عندها سيعترفون بأنهم ليسوا الطفل المدلّل في العالم، وأنه آن لهم أن يخرُجوا من دم الفلسطينيين وأرضهم مرّة واحدة وإلى الأبد.