يناير ... ذكرى تنفع المصريين
ليست الهزيمة نهاية التاريخ، لكنها نهاية حقبة، وربما خطّة طريق، بدروسها، لبداية أخرى. كانت إزاحة حسني مبارك عن الحكم في مصر منجزاً، من دون شك، لكن التجربة كشفت عن أوهام راسخة ومستقرّة، يعد اقتلاعها وإزاحتها منجزاً أكبر وأهم. أولها أن المعارضة المصرية، على تنوّعها، لم تقدّم "رجل دولة" واحداً، ولا يعني ذلك أن ثورة 25 يناير بلا ساسة. قدّمت من صفوفها وأبناء جيلها المحامي والحقوقي خالد علي، ومن جيل سبقها ولحق بها ومثلت نضالاته مصدر إلهام لشبابها حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح، وقدّم التيار الإسلامي برلمانياً سابقاً هو محمد مرسي، وواعظاً سبق له الترشّح للبرلمان هو حازم صلاح أبو إسماعيل، ناهيك عن عرّاب الثورة الفعلي وأحد أبرز من شاركوا في الذهاب إلى لحظة التغيير، محمد البرادعي، وجميعهم نخب سياسية "نظيفة"، يشهد لهم "مجمل" تاريخهم وانحيازاتهم، وإن اختلفنا في التفاصيل، لكن اختبارات "يناير" وما بعدها أثبتت أن "رجل الدولة" شيء آخر. وهنا أشير إلى "اللاعب الجاهز" المؤهل لنزول الملعب وإحراز أهداف، وليس الذي يحتاج إلى فترة إعداد تتجاوز المباراة إلى ما بعد "البطولة".
وإذا تجاوزنا الفرد إلى "المشروع"، فإن "يناير" حملت طموحاتٍ مشروعة، لكنها لم تحمل مشروعاً طموحاً، ولم تقدّم إجابات واضحة عن أسئلة عموم المصريين الآنية، كما أنها لم تطرح أسئلة بديلة تحمل طابع الجدية. وأتذكّر أن "بداية" الجدل بشأن "بوصلة" الثورة المصرية كانت مع تدوينة ثرية، كما وصفها فهمي هويدي، كتبها شاب عشريني في بداية تجربته الصحافية، هو محمد أبو الغيط (ألف رحمة ونور عليه) وهي "الفقراء أولاً يا ولاد الكلب". ولعل انتشار التدوينة وتحوّلها إلى مقال ذائع والسباب في عنوانها، بما يتعارض مع معجم الكاتب الكبير فيما بعد، يكشف عن حجم الحنق وخيبة الأمل لدى قطاعٍ واسع من المصريين، كان ينتظر إجابات أو حتى أسئلة واعية ومحفّزة، ولم يجد سوى "الشعارات".
كشفت تجربة "يناير" بوضوح عن فقر "المعرفة" لدى المعارضة المصرية، المعرفة بالبلد وأحوالها ومشكلاتها الملحّة، والمعرفة بأساليب الإدارة والسلطة والحكم، (في مصر هنا والآن)، والمعرفة بآليات المواجهة والصراع، وتكتيكات التفاوض والحلول، معارضة "تمثيلية" وفق الدلالة الدرامية لا السياسية. انكشف الإخوان المسلمون، ربما أكثر من غيرهم، لأنهم اختاروا، في حماقة مدهشة، أن يحتكروا، وحدهم، مسؤولية الحكم والسلطة، "وشالوا الشيلة"، وحازوا أغلبيات مجالس الشعب والشورى ثم رئاسة الجمهورية، وقدّموا خدمات جليلة للثورة المضادّة، وسهلوا مهمتها، وحصروا أعداءها في فصيل واحد، متهم سلفاً، بالخصومة مع "أفكار" الثورة والحريات، ناهيك عن يوميات الانتهازية السياسية، (والمسخرة)، منذ رحيل مبارك وحتى الانقلاب العسكري و"الجماهيري" على مرسي في 3 يوليو/ تموز 2013. ولا يعني ذلك أن أداء أو خطابات غيرهم تميّزت بأي قدر من "الاحترافية". تتفاوت المواقع والمسؤوليات ونسب التأثير، ويشترك الجميع في "نقص الأهلية"، أو عدمها.
ثالث الأوهام التي فكّكتها تجربة يناير وما بعدها "وطنية" المؤسّسة العسكرية، ليس الجيش المصري، الذي يستحيل، نظرياً، تعميم "حكم قيمة" على مجموع أفراده وقياداته، إنما أعضاء المجلس العسكري، تحديداً، حكّام مصر الفعليون، الذين لا يستطيع أحد، من أفراد المؤسّسة العسكرية أو قياداتها الوسطى، تجاوزهم، والذين اختصروا "مصر" في شخوصهم ومصالحهم، ومثّلت محاولات إعادتهم إلى ثكناتهم، أو مشاركتهم الحكم، أو إعادة توزيع جزء من ثرواتهم "المرعبة" على مائة مليون مصري، مؤامرة دولية على "مصر"، وجرى التعامل مع ثوار يناير وفقاً لذلك، بانتقام وحشي.. قتل وخطف وإخفاءات قسرية، واعتقالات وتشريد بالآلاف، وانتهاكات "مسلّحة" للدستور والقانون ومفهوم "الدولة" نفسه، ما ترتّبت عليه تصدّعات اجتماعية تحتاج "معجزة" لرأبها، وجرائم اقتصادية تجاوزت إفقار المصريين إلى إذلالهم. (ناهيك عن مساخر السياسة). والأدهى أنه لا حلول لدى عساكر المؤسسة "الوطنية"، وسوف يبقى الحال (وعبد الفتاح السيسي) على ما هو عليه. لا تغيير (ولا رحيل)، طالما أنه لا تهديد لهم أو لمصالحهم. وعلى مصر السلام.