يلاحقون الصدر في عزلته
لا يبدو أن غياب مقتدى الصدر وتياره الشعبي الكبير عن الساحة السياسية قد أنهى حالة الشدّ والجذب بينه وبين خصومه الشيعة ممن وجدوا في انسحابه من العملية السياسية فرصتهم في احتلال مقاعد نوابه الـ73، وبالتالي فرصتهم الثمينة في تشكيل الحكومة التي يرأسها حاليا محمد شياع السوداني، فمقتدى الصدر أبرز الحاضرين في المشهد السياسي العراقي رغم الغياب، فهو ليس الغائب الحاضر، وإنما الحاضر وإن غاب أو حتى غُيّب في مرحلة لاحقة.
يدرك المتابع للشأن العراقي أن الخلافات بين المكون الشيعي على كل من الصعيد السياسي والحزبي والديني معقدة جدا، وهي خلافاتٌ ليست وليدة مرحلة ما بعد احتلال العراق عام 2003، وإنما هي متجذّرة ومتأصّلة في محاولة استغلال قوى دولية وإقليمية المذهب. ولعل أبرز دليل، ما جرى من عملية اغتيال لوالد مقتدى الصدر، محمد صادق الصدر في النجف مع ولديه، والاتهامات التي قيلت وقتها ومؤداها أن من يقف وراء تلك العملية قوى شيعية متنافسة مدعومة من إيران، قبل أن تلقى كرة الاتهامات في ملعب النظام العراقي السابق، وعملية اغتيال نجل المرجع الشيعي أبو القاسم الخوئي، عبد المجيد، الذي قتل في النجف في العاشر من أبريل/ نيسان عام 2003 أي بعد يوم من بدء الاحتلال الأميركي للعراق، وقيل وقتها إن أتباع الصدر هم من اغتالوه.
الخلافات الشيعية الشيعية متأصّلة ومتجذّرة، وهي غالبا لا تحتاج إلا لتضارب المصالح ورخاوة القبضة الإيرانية لتنفجر من جديد
وتتوالى الخلافات بين أتباع المذهب الشيعي، وصولا إلى المواجهات المسلحة التي تفجرت بين أتباع الصدر ومليشيات تابعة للحشد الشعبي يديرها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي داخل المنطقة الخضراء ببغداد أغسطس/ آب عام 2022 إثر الخلافات العميقة التي ضربت القوى الشيعية عقب انتخابات 2021، وفاز فيها التيار الصدري قبل أن ينسحب من العملية السياسية والبرلمان، ليترك فراغا شغلته القوى السياسية الشيعية التي توصف بأنها مقرّبة من طهران وتشكل الحكومة الحالية.
هذا السرد السريع لخلافات أبناء المذهب الواحد، سياسيا ودينيا، التي كانت دائما برميل البارود الذي يمكن أن يفجّر الواقع الهش في العراق، وهي خلافاتٌ نجحت إيران طيلة عقدين في أن تديرها بالتسكين وكثير من السيطرة، خشية أن تفقد نفوذها المتنامي في العراق. بالتالي، يمكن القول إن الخلافات الشيعية الشيعية متأصّلة ومتجذّرة، وهي غالبا لا تحتاج إلا لتضارب المصالح ورخاوة القبضة الإيرانية لتنفجر من جديد.
ومنذ شهر رمضان المنصرم، ورغم انسحاب مقتدى الصدر وتياره من العملية السياسية واعتزاله العمل السياسي وتحييد تياره، إلا أنه كان مادة ساخنة لتجاذباتٍ عديدة شهدتها الساحة العراقية... في رمضان، وقبيل فترة الاعتكاف السنوي التي يقوم بها الصدر، ظهرت جماعة قديمة جديدة تطلق على نفسها جماعة "أصحاب القضية"، وهي تشكلت من أتباع التيار الصدري بين عامي 2007 و2008 ، وكانت ترى أن مقتدى الصدر هو الإمام الثاني عشر لدى الشيعة، أي المهدي المنتظر، مستندة إلى عقيدة "الحلول في القضية"، وهي موروث شيعي يقول بإمكانية حلول روح شخصٍ في جسد شخص آخر. وترى هذه الجماعة أن روح المهدي المنتظر الغائب لدى الشيعة حلت في جسد مقتدى الصدر، وعادت لتحاول أن تبايعه على أنه المهدي، وهو ما أغضب مقتدى الصدر، ودفعه إلى إنهاء اعتكافه في النجف، ومهاجمة هذه الجماعة التي غضّ الطرف عنها حين ظهورها بين عامي 2007 و2008 إبان الحرب الطائفية التي اشتعلت في العراق.
هل سيدفع الصراع الشيعي الشيعي إلى تغييب الصدر عن المشهد بشكل نهائي من خلال تدبير مكيدة ما؟
شنّت القوات الأمنية العراقية حملة اعتقالات طاولت جماعة "أصحاب القضية"، غير أن الأمر لن ينتهي عند هذا الحد، وكأن هذه الجماعة فجّرت الخلافات التي ما فتئت تكبر بين قوى الإسلام السياسي الشيعي، حيث ظهرت جماعة أخرى تطلق على نفسها "الثأر الحسيني" هدّدت مقتدى الصدر وتوعّدته، فهي ترى فيه "الشيصباني" الذي سيفرّق أبناء الطائفة الشيعية ويقتل كبارهم ومبرزيهم، بحسب ما تأتي به نظريات شيعية قديمة تحدّثت عن "الشيصباني".
من يدقّق في الفيديو الذي ظهرت به جامعة "الثأر الحسيني" يدرك سريعا أنها محسوبة على تيارات شيعية منافسة للصدر، خصوصا أن المتحدّث باسم هذه الجماعة لمح إلى ذلك، عندما قال إنهم ينتمون للمقاومة الحالية، وهي إشارة إلى فصائل في الحشد الشعبي تدّعي أنها فصائل مقاومة. وغير بعيد عن هذه الواقعة، كانت التسجيلات المسرّبة لنوري المالكي رئيس الوزراء العراقي الأسبق، وأحد ألد خصوم مقتدى الصدر وأعدائه، والذي تحدّث فيها عن مقتدى الصدر وتياره ونيّته إنهاء هذا التيار، بعد أن وصفه بأقذع الأوصاف، معتبرا إياه خطرا على المكوّن الشيعي وتجربتهم في الحكم.
وترى أطرافٌ شيعيةٌ في اعتزال مقتدى الصدر أنه غير كافٍ للتخلص منه ومن خطره عليهم، لأنها تدرك أن الصدر يمكن أن يحرّك الملايين من أتباعه بتغريدة أو منشور على مواقع التواصل الاجتماعي. لذلك، تشير أصابع الاتهام إلى تلك الأطراف الشيعية المنافسة للصدر بأنها تقف وراء مثل هذه المجاميع المسلحة التي باتت تهدّد الصدر بشكل علني، فهل سيدفع الصراع الشيعي الشيعي إلى تغييب الصدر عن المشهد بشكل نهائي من خلال تدبير مكيدة ما؟ أم ستبقى هذه المناكفات محكومة ومسيطرا عليها من إيران التي تدرك جيدا أن أي صراع شيعي شيعي سيذهب بكثير من نفوذها الكبير في العراق؟