يقتلون الثقافة في غزّة
كما أن سقوط آلاف الشهداء في قطاع غزّة الذين تتسارع أعدادُهم ليس من أعراضٍ جانبيةٍ في الحرب التي تزعم دولة العدوان الإسرائيلي إنها تستهدف فيها حركة حماس، وكما أن قتل مرافق الحياة في القطاع المنكوب، وتدميرها وتهديمَها، ليس آثارا جانبيةً في الحرب التي تشنّها آلة التوحّش الإسرائيلية، فإن استهداف المنشآت والمؤسّسات الثقافية، العامّة والأهلية والخاصّة، بالقذائف والصواريخ، ليس عملا عابرا، ولا تفصيلا عشوائيا في أتون الإجرام المستمرّ منذ ثلاثة أشهر. وحسنا فعلت وزارة الثقافة الفلسطينية أنها أصدرت (بالعربية والإنكليزية) تقريرا أوليّا (7 أكتوبر/ تشرين الأول – 6 ديسمبر/ كانون الأول)، وثّق أسماء الشهداء والشهيدات من التشكيليين والمسرحيين والقصّاصين والروائيين والفنانين والأكاديميين والعاملين في القطاع الثقافي الذين قضوا، وبعضُهم مع أفرادٍ من أسرِهم وعائلاتهم، في مذبحة التمويت التي لا يريد العدوّ الكفّ عن ارتكابها، كما استعرض التقرير جميع المراكز الثقافية والمدارس القديمة والمكتبات العامة والجامعات والمتاحف والمسارح والغاليريهات ودور النشر والمواقع الأثرية والمباني الثقافية والأستوديوهات التي دمّرها العدو، كليّا أو جُزئيّا. وحسنا (ثانيةً) أن الوزارة جاءت، في التقرير، على صعوبة الكشف عن الحقائق الشاملة والدقيقة في هذا الخصوص، وأوضَحت أن ما دوّنته هو ما استطاعت الوصول إليه، "إذ تعرّض المشهد الثقافي في القطاع إلى اعتداءاتٍ متعدّدة الطبقات". والمأمول تهيئة ملفّاتٍ بجميع الجرائم التي يقترفها المحتلّ ضد الثقافة ومُنتجاتها في القطاع.
وعندما يستهدف الغازي القاتل، الأسبوع الماضي، في رفح، متحف الثوب الفلسطيني، ليحترق ويضيع ثلاثمائة ثوب فلسطيني، معظمُها من مقتنيات ما قبل النكبة، جمعتْها صاحبة المتحف، ليلى شاهين، من اللاجئات من قرى جنوب يافا اللائي هاجرْن إلى القطاع، فهذا شاهدٌ يؤكّد المؤكّد، أن الحرب على الثقافة الفلسطينية مركزيةٌ في المشروع الصهيوني، باعتبارها حربا على الرواية الفلسطينية. وينضمّ المتحف، في الجريمة التي أوقَعها به القصف الإسرائيلي المتمادي، إلى مركز رشاد الشوّا الثقافي (تأسّس في 1986، يضم أكبر وأقدم قاعة مسرح في القطاع) في حيّ الرمال في غزّة، وقد طاوَله التدمير بالكامل، والمركز الثقافي الاجتماعي الأرثوذكسي العربي في تلّ الهوا في غزّة، والذي تدمّر بطابقيْه، والمكتبة العامة لبلدية غزّة، وهيئة دار الشباب للثقافة والتنمية في مخيّم جباليا، ومؤسّسة السنونو للفنون والثقافة في حي الرمال، وكذا مركز غزّة للثقافة والفنون في الحي نفسه، والجمعية الفلسطينية للتنمية وحماية التراث في بيت لاهيا، وقرية الفنون والحرف في غزّة، ومقرّ جمعية البيادر للمسرح والفنون في تلّ الهوا، وغاليري التقاء للفنون البصرية المعاصرة في غزّة، وغيرها من فضاءات ثقافية عديدة. تنضاف إلى هذا كله، وغيره الكثير، عدّة متاحف، منها متحف القرارة الثقافي (تأسّس في 1958) ومتحف خان يونس، وكذلك كنيسة القدّيس برفيريوس في غزّة، وتعدّ من أقدم المعالم الأثرية المسيحية، وقد تعرّضت لقصفٍ وتدميرٍ مشهوديْن، كما اللذيْن تعرّض لهما 144 مبنى قديما، عدا عن مساجد وأسواقٍ عتيقةٍ عديدة. وقد قال مندوب فلسطين الدائم في "اليونسكو"، منير أنسطاس، إن إسرائيل تعمّدت استهداف نحو مئتي موقع أثري وتراثي في القطاع، رغم علمها بإحداثيات هذه المواقع.
ما الذي في الوُسع القيام به لإعادة بناء وتأهيل هذه المنشآت؟ ما المطلوبُ الملحّ، وفي المقدور إنجازُه، فلسطينيّا وعربيا، بشأن الحرب الإسرائيلية المتواصلة ضد الثقافة الفلسطينية، منذ ما قبل اغتيال الروائي والقاصّ غسّان كنفاني في 1973 (لقائلٍ أن يقول إن العدو استهدفَه لموقعه القيادي في الجبهة الشعبية؟)، وقبله استهداف المتحف الوطني في القدس إبّان النكبة، مرورا بنهب ممتلكاتٍ ثقافيةٍ عديدة، وصولا إلى الجاري في قطاع غزّة؟ ليست الإجاباتُ على السؤاليْن، وغيرِهما، ميسورة في عُجالة كالتي في هذه السطور، غير أن صنّاع القرار، في مؤسّسات العمل الثقافي الفلسطيني، بإسنادٍ من خبراتٍ ومؤسّساتٍ عربيةٍ وأجنبية، في مكنتهم أن يصوغوا تصوّراتٍ في هذا الخصوص، ولكنّ من بالغ الوجوب والضرورة أن تتهيأ ملفّاتٌ لمقاضاة إسرائيل على جرائمها هذه، والتي تنتهك اتفاقية لاهاي (1954) لحماية الممتلكات الثقافية واحترامها في أثناء النزاعات والحروب ... خطوةً أولى.