يد الله أحمد فاروق
يحتاج أحدهم مساعدة طبية ولا يملك ثمنها، نرسله إذاً إلى أحمد فاروق. هكذا كانت تعمل عقولنا (وما زالت). المساعدة الطبية المجانية تعني "فاروق" أيّاً كان التخصّص، إذا كان تخصصه، فعنده العلاج والمتابعة والرعاية الكاملة، من دون سؤال. وإذا لم يكن تخصصه، فأياديه البيضاء وسوابق مساعداته، بالعلاج أو التعليم أو البحث عن طبيب أو الدفع من جيبه، تكفي، وتفيض، كي يسدّد بها، عن العاجزين، ويدفع عن المرضى.
يتذكّر رفاق الميدان أول بالطو أبيض يتحرّك وسط الجموع، ولا ينتظر طلب المساعدة، بل يبحث عمن يحتاجها ليقدمها، من دون تباطؤ، فهو، أمام نفسه، مسؤولٌ عن كلّ طالب مساعدة طبية، ولا يعني جرح أحدهم، من دون علاج، أو استشهاده، قبل إسعافه، سوى تقصير فاروق نفسه، ولو لم ير المريض أو يسمع به. رأيته يومها (28 يناير/ كانون الثاني 2011)، وداعبته بأن أحدًا لن يحتاجه (إن شاء الله)، فتمنّاها بقلبٍ صادق، ووجهٍ لا يصدق، لكن يبتسم، طوال الوقت ويبتسم. ويشير إلى "الجموع" في الميدان باعتبارهم، هنا والآن، سبباً كافياً لممارسة النظام العنف. رأيته مساء اليوم نفسه، وقد تحوّل البالطو والقفاز في يديه إلى اللون الأحمر، وكأنّه لونهما الأصلي. وقال: "خيطت النهارده حالات بحياتي كلها". يدا فاروق، وحدها، شهادة كافية ووافية على تعامل نظام حسني مبارك مع المتظاهرين. (كان ذلك هو المستشفى الميداني الأول).
لا تعرف يدا فاروق توجّها أو انحيازاً سوى "المستضعفين في الأرض". ما زلت أذكُر واقعة إنقاذه موظفاً سابقاً في جهاز أمن الدولة. حاول، بالخطأ، المرور عبر ميدان التحرير (في أحد اعتصامات ما بعد رحيل حسني مبارك). أبرز الرجل هويته، ولسوء حظه وقعت في يد شابٍّ سلفي له سابقة تعذيب في الجهاز اللعين، أوسعه الشاب ضرباً، واشتبك سلفيون آخرون، واحتجزوه، وفشلت كلّ محاولات إنقاذ الرجل. رآهم فاروق، تدخّل، وانتزع الرجل من أيديهم، وأخذه في غرفة بمسجد عمر مكرم، وأغلق الباب، وعالجه، ووقف الشباب بالخارج يصرخون، ويتوعّدون، اتصل فاروق بأحد أصدقائه في حملة "حازمون"، وجاء الشيخ حازم أبو إسماعيل، وأنقذهما.
شارك فاروق في "كل" الفعاليات الثورية، التظاهرات التي تُطالب بتحسين الوضع الصحي، والجنازة الرمزية التي نظّمها الفريق الطبي في مصر احتجاجا على تدنّي مستوى الخدمات، وقوافل المساعدات الطبية داخل مصر وخارجها، وتأسيس جمعية أطباء التحرير، والتحدّث باسمها. وطالب، بعد واقعة شهيد التعذيب عصام عطا، بالسماح له ولغيره بتوفير خدماتٍ طبيةٍ مجانية للمساجين وتحسين أحوالهم الصحية، وإنقاذ حيواتهم، كان يُطارد الألم والعوز، ويدفع من ماله وعلمه ووقته ودمه وأعصابه، وهو الشاب العشريني، وقتها، وأبو البنات، وصاحب الهم الشخصي والمسؤوليات التي تُغنيه عن ذلك كله، لكنه "فاروق".
لماذا ننتظر "كبراءنا" حتى يموتوا لنعرّف الناس بهم؟ فاروق ليس أحد أعلام ثورة يناير فحسب، بل هو أحد من منحوا هذه الثورة شخصيتها. لم يظهر، كثيراً، على الشاشات، لم يكن كاتباً أو ناشطاً سياسياً أو إعلامياً، رغم تجربته الثرّية في القراءة والتحصيل والتقلّب على جمر الأفكار، ومحاولاته الجادّة في الكتابة، ومشاركاته في أنشطة سياسية قبل الثورة، وأبرزها مع حزب الوسط، كان فاروق طبيباً، وعالماً "حقيقيا" في تخصّصه، حصل على الدكتوراه في جراحة الوجه والفكّين، وعمل أستاذاً بالمركز القومي للبحوث، وورث عن أبيه، طبيب الأسنان البارز فاروق عبد العظيم، علماً وخبرة وسمعة طيبة وعيادة في وسط البلد (القاهرة). وكان ذلك كله كافياً، للتحقّق المادي والمهني، وما كان أغنى فاروق وأمثاله عن الخروج إلى الميادين ومناطحة السلطة و"وجع القلب"، لكنه "الحلم"، والإخلاص الحقيقي في "مساعدة الخلق"، وجبر خواطرهم وأوجاعهم من دون مآرب سياسية أو مادية. ولذلك، وغيره، كانت، وما زالت، وسوف تظل، يناير 2011 كابوس الفاسدين واللصوص وقطّاع الطرق. رحل فاروق، صباح الإثنين 12 فبراير/ شباط الجاري، عن عمر يناهز التاسعة والثلاثين عاماً، توقّف قلبه، بكلّ ما يحمله من حيوات وآمال طيّبة، ألف رحمة ونور.