يا لتلك الكتب
اللائحة التي أشهرتْها صحيفة نيويورك تايمز تحت عنوان "أفضل مائة كتاب للقرن 21" مستفزّة، سيّما في مسمّاها هذا المثقل بالفوقية، والذي ينطقُ بمركزيةٍ غربيةٍ معهودة. لم ير المستطلَعون لاختيار هذه الكتب "الأفضل"، بالإنكليزية أو مترجمةً إليها، أي واحدٍ نُقل من العربية، أو كتَبه عربيٌّ بالإنكليزية، سوى روايةٍ لليبي البريطاني، هشام مطر. وليس المقام هنا لشرح أسباب ازورار أكثر من 500 كاتب وناقد، ومعهم محرّرون في الصحيفة وقرّاء معروفون لديها، جرى استطلاعُهم، عن اختيار نصوصٍ لكتّابٍ عرب بالإنكليزية، فيما تحضُر أعمالٌ لأوروبيين ولاتينيين وآسيويين وأفارقة، بعضُهم متوفّون. ولئن جاز الذهاب إلى أن ترويج تلك الإصدارات لا يجري بالكيفيّات اللازمة، فهذا لا يغيّب أن ثمّة منظوراً دونيّاً تجاه تلك الإصدارات، أو أقلُّه غير مكترثٍ بها. ولئن صحّ إن للناس فيما يعشقون مذاهب، فهذا لن يفسّر، تماماً، أن ثلاثة أرباع الكتب الأفضل روايات، ما يعني غلبة الرواية على أمزجة أولئك المستطلعين، ولافتٌ أن اللائحة ضمّت مجموعة شعرية وحيدة. وربما، لو أن غير "نيويورك تايمز" بحثََت عن "أفضل مائة كتاب ..."، بكيفيّة الاستطلاع نفسها، لكانت النتائج مماثلة. والماثلُ أننا حقّا في "زمن الرواية" في العالم كلّه، على ما كان قد رأى جابر عصفور.
لتفعل الصحيفة الأميركية العتيدة ما تشاء، مثل تلك اللائحة وغيرها، لكنها لا تستطيع أن تجعلنا نستسلم لأمزجة من سألتهم عمّا يقرأون، وعمّا يقرّرونها من الكتب أفضلَها في القرن العشرين. وقد ابتدَعت هذه المُزحة (المفردة في موضعها)، ربما تنويعاً على الذي تأخُذ به صحفٌ أجنبيةٌ عديدة (بريطانية وأميركية وفرنسية خصوصا)، عندما تنشُر لوائح دوريةً لأكثر الكتب مبيعا، وأكثر الكتب مقروئيةً، بل وأيضاً أسوأ الكتب. وفي الراجح أن تقاليد كهذه في الصحافات الثقافية هناك تساهم في تسويق الكتب وترويجها والتنبيه إليها في مجتمعاتٍ ما زالت تَقرأ، وتتقدّم فيها اقتصاديات المنتوجات الثقافية.
... أما بعدُ، فلي أنا، صاحبُ هذه الكلمات، لوائحي من الكتب، وبالعربية ومنقولةً إليها، أراها الأفضل والأكثر تاثيراً على مزاجي وذائقتي، لي أن أُشهرها، ضدّا على "تبجّّح" مُعلن مارسته "نيويورك تايمز"، عندما تزيّدت كثيراً في العنوان الذي اختارتْه لمادّتها الصحافية، وضدّا على الذين تعاملوا مع الكاتب العربي، بلغتهم أو مُترجما منها، بغير انتباهٍ لازم. ...، أياً كان الحال، أنصرف، هنا، أزيد من 50 عاما قرأتُ فيها ما قرأت، منذ اليفاعة في المدرسة، فأقول إنّ نجيب محفوظ في "اللص والكلاب"، منذ تلك التمارين الأولى على القراءة، أبقى فيّ تعاطفاً مع سعيد مهران. وإنّ شكسبير، في واحدة من ترجمات "هاملت"، أبقاني في شعورٍ خاصٍّ تجاه ما غالبه هذا الفتى في مملكة الدنمارك. وإن طبعةً من ديوان "عشيّات وادي اليابس" أخذتني إلى الخرابيش التي أحبّ فيها مصطفى وهبي التل "مكحّلةً" تهواه ويهواها. وإن الصُّحبة مع أبي الفرج الأصفهاني في بعض "الأغاني"، ومع أبي علي القالي في كثيرٍ من "الأمالي"، كانت متعةً لا تُنسى، وقد كان اثناهُما في المنزل، مع ابن هشام والسيوطي والقرطبي وسيبويه وغيرهم. وإن كتاباً من سلسلة "أقرأ" القاهرية، عن أدب عبّاس العقاد، لمؤلفته، نعمات أحمد فؤاد، أخذني إلى عالم هذا الكاتب المتنوّع المشاغل، وإعجابٍ ثقيلٍ به، خفّ بعضَ الشيء تاليا. وتالياً هذه مفتوحةٌ على طوْرٍ من القراءات في غير شأن، مصحوبةٍ بحيرة المفتون بعبد الرحمن منيف ويوسف إدريس وحنّا مينة وغسّان كنفاني ومحمود درويش وأدونيس وجمهرةٍ من كتّاب القصص والروايات والأشعار، لا يجوز أن تُنسى منها رواية يشار كمال "ميميد الناحل"، ولا "مجنون إلزا" لأراغون، بمواكبةٍ مع كتبٍ في الفكر والتفكير غير قليلة، كان منها الأبعد أثراً فيّ، في أخريات مرحلة الجامعة وبُعيْدها، كتاب محمد عابد الجابري "الخطاب العربي المعاصر".
لطالما كرّرتُ إنّ نصوصاً لأدباء أُعطوا "نوبل" ليست أعلى كعباً مما كتبه جمال ناجي وعبد الرحمن الأبنودي وإبراهيم نصرالله وزياد قاسم ومحمد زفزاف وحنان الشيخ ويوسف عبد العزيز وصنع الله إبراهيم ومبدعون عربٌ بلا عدد، وصولاً إلى شبّانٍ من أجيالٍ أحدث وأجدّ (أحمد المرسي وكريم جمال و... أخيراً)، يجرّبون ويبتكرون، فيُحدثون المتعة الأبقى، الأدْعى للفرح بها، والانصراف إليها إذا أحدَثت لائحةٌ كما التي صنعتها "نيويورك تايمز" الاستياء المُشار إليه أعلاه.