يا أهالي السويداء: "الأخ الأكبر" يراقبكم
من محاسن المآل السوري الراهن، باعتباره صورة ديستوبية واقعية عن مجتمع فاسد ومُنهك، أنه يجيب تلقائياً عن أسئلة الانحدار المستمرّ في حياة السوريين، وتحوّلهم تدريجياً إلى مجتمع العبيد البائس المستسلم للأمر الواقع، ما ينفي موقف الفيلسوف البريطاني جيريمي بنثام، الذي أدرك، في نهاية عصر الأنوار، أنه لم يعد بالإمكان حكم الناس من مُلك مطلق أو تراتبية صلبة، بينما الإسقاط المعاصر على هذه الرؤية الاستشرافية يأخذنا، بالضرورة، إلى حكم عائلة الأسد باعتبارها أصل مأسسة النظام الاستبدادي المطلق في سورية التي تحوّلت إلى مخفرٍ للمراقبة والمعاقبة، لتشكل مثالاً عملياً حياً لرواية جورج أورويل الاستباقية "1984"، التي، رغم أنها قصة كلاسيكية كُتبت عقب الحرب العالمية الثانية، فإنّ تنبؤاتها في جانبها المعنوي تتّسم بشيءٍ من النبوءة السورية تصل إلى حدّ الإدهاش، لأنها تصوّر عالماً شمولياً تغزوه لغة عنفية مستحدَثة، تتداخل مفرداتها ورموزها إلى حدٍّ يستحيل معه فرز الحقّ من الباطل.
رغم هذا، تبدو "سورية الأسد" مختلفة في نواح عديدة، لم يكن أورويل ليتخيلها، وهو الذي كان شاهداً على إعادة تشكيل عالم ما بعد الحربين وفق قوى وأفكار جديدة، ربما لأنّها، ببساطة شديدة، تقوم على فلسفة العبودية الطوعية لنظامٍ اغتصب السلطة بقوة السلاح، فتصرّف بها كأنه في بلادٍ غزاها. ومن هنا تأتي استحالة اقتلاعه بسهولة. هي حقيقة مؤلمة، لا شكّ، لكن لها ما يبرّرها واقعياً، بعدما سلخ الأسد الأب البلاد حتى العظام، ورسم ملامح دولة بوليسية تشبه، إلى حدّ بعيد، ملامحه المشوّهة، ليُتاح للسوريين أن يُشاهدوا "الأخ الأكبر" يراقبهم في النهار، ويسهر عليهم في الليل. ثم، وفي عهد الأسد الابن الذي لم يكن أبداً منحرفاً ولا سادياً، ولكنه كان عادياً وخجولاً بشكلٍ مرعب، وهذا أخطر ما في الأمر، تتولّد شرعية طرح رؤية موازية للإرث الثقيل لجمهورية الرعب والصمت، ومفادها أنّ الحياة السورية اليوم ليست أكثر من حالة بهيمية في أحطّ مستوى، بل وهي التجسيد المجازي للجحيم نفسه.
بالتساوق مع ما تقدّم، علينا التسليم بأنّ عبارة "الأخ الأكبر يراقبك"، وهي عصارة رواية "1984"، تحمل تأويلاتٍ كثيرة في الحالة السورية، على اعتبار أنّ انفصام الأسد عن الواقع هو انفصال واعٍ وتنكُّر مقصود، بوهم حماية نظام قمعيٍّ لا يستطيع اكتساب قبوله من الناس إلا بقوة الحديد والنار. وعليه، تتناسب سيولة الشر في عالم أورويل مع الحداثة السلطوية التي يعيش السوريون في جنباتها، مع أنّ الأمر لم يكن سهلاً بالنسبة للأسد، لأنه مشروطٌ بالعلاقة الإشكالية بين السلطة المطلقة والثورات المضادة، باعتبارها قيمة وظيفية متطوّرة بتطوّر أدوات الاستبداد. وعندما يتم التغلغل في عمق هذه العلاقة العضوية، نجد أنّ قنبلة ثورية داخلية يجري التحضير لها، ولا أحد يعلم توقيت انفجارها. هل نتحدّث عن انتفاضة السويداء، بالتأكيد، وسط المراهنات على قدرتها على قلب الطاولة على بشّار الأسد، ما أغضب الأخير فما كان منه إلا التحرّك، وعلى وجه السرعة، في سبيل شفاء المتظاهرين من جنونهم، أيّ كراهيتهم القائد المفدّى.
الأسد الابن، وما إن وُضع في "خانة اليكّ" إبّان الثورة السورية، حتى فُضحت كلّ ذرائعه الباطلة، فدمّر بلاداً بأكملها، فقط لأنّ سكينته تكدّرت داخل قصره العاجي
في السياق، تُفهم عقلية الأسد ورغبته في مدّ خط حلم العائلة إلى أقصى استقامته، صارخاً بشعبه وعلى طريقة أورويل: "أنتم لا تمتلكون من البلاد سوى تلك السنتيمترات المكعبة داخل جماجمكم". وفي الحقيقة، تتأثر سيناريوهات الردّ المتوقّعة بعوامل داخلية متعلقة بتركيبة المدينة ذات الغالبية الدرزية وأكذوبة حماية الأقليات، وبخيارات النظام نفسه بالتعامل مع حراك المدينة التي تمتلك، رغم ضعفها اقتصادياً، ثقلاً مهمّاً، كونها تشكّل ممرّاً أساسياً لتهريب الكبتاغون، إضافة إلى تموضعها إلى جانب درعا التي تشكّل، بدورها، جيباً معارضاً يسعى مع جارته إلى إيجاد كياناتٍ مدنية وسياسية توحد جهودها في ظلّ الأوضاع الكارثية الراهنة.
وبتأمل بسيط يعيدنا إلى الوقائع السورية المستندة إلى أيديولوجية عدوانية متطرّفة بالمعنى المستطير للشرّ، يمكن اختزال التطوّرات التي استجدّت أخيراً في أهم تجلياتها أنّ بشّار الأسد بات غير معنيٍّ "بالانخراط" في الكوارث العربية المحيطة، أهمها غزّة، إنما عينه على السويداء، وهو الذي قال "لا توجد طريقة أخرى لحكم المجتمع السوري إلا بوطء الرؤوس بالحذاء"، كما ذكر سام داغر، مراسل صحيفة وول ستريت جورنال من دمشق منذ سنوات. وعليه، جرى استقدام مئات الجنود وعشرات الدبابات والمدرّعات من دمشق إلى السويداء التي تشهد مظاهرات مناهضة للنظام منذ أغسطس/ آب 2023، والتي تجرّأت على التطاول على سلطة "الأخ الأكبر" إثر تحطيم التماثيل وتمزيق كلّ اللوحات التي تُجسد قدسية "الأسديْن". وتعليقاً على التعزيزات الاستفزازية، حذّر الزعيم الروحي للطائفة الدرزية، الشيخ حكمت الهجري، من التصعيد، مؤكداً أنّ المظاهرات السلمية ستتواصل ضد النظام، وإذا ما أراد الرصاص سوف يناله حكماً.
على التوازي، وبينما كانت أولوية نظام الأسد تتركّز على احتواء الحراك عن طريق استنزاف المدينة، والاستثمار في المليشيات التابعة له، خصوصاً الإيرانية، يبدو أنّ الرسالة الأولى من هذه التعزيزات غير المسبوقة خلال فترة الحراك السلمي تنطوي على إيحاءاتٍ صريحةٍ بإرهاب المحتجّين، وتحويل انتفاضتهم إلى كوابيس مُفجعة لا تنتهي، ردّاً على ليّ ذراعه بعد إجباره على الإفراج عن الشاب داني عبيد، ابن السويداء، المعتقل شهرين بسبب رأيه المناصر للحراك، إثر احتجاز جماعاتٍ أهلية مسلحة عدّة ضباط، ليضعوا النظام في ميزان "التكافؤ والتبادل"، ما كشف عن قدرة الحراك على إطلاق سراح معتقلين، ومن دون وسيط.
لا يمكن للحقائق أن تتصادم داخل سردية التراجيديا السورية، لأنها تمثل في مجموعها اتساقاً وتكاملاً مثالياً
بطبيعة الحال، لا يمكن للحقائق أن تتصادم داخل سردية التراجيديا السورية، لأنها تمثل في مجموعها اتساقاً وتكاملاً مثالياً. ويبدو أنّ تحدّي المدينة عنجهية النظام وتعنّته "الأسطوري"، بغية استرداد الشاب عبيد، أدّى إلى تحوّل جوهري مفاجئ في المقاربة الحكومية على مبدأ الاستطراد العبثي لتفاهة الشرّ بعيداً عن الجذور والدوافع. ما تؤكده الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت بقولها "الشرّ لا يتمّ بدوافع عميقة واختيارات واعية، وإنما الدافع غالباً سطحي وتافه". وأدلّ مثال على هذا أنّ الأسد الابن، وما إن وُضع في "خانة اليكّ" إبّان الثورة السورية، حتى فُضحت كلّ ذرائعه الباطلة، فدمّر بلاداً بأكملها، فقط لأنّ سكينته تكدّرت داخل قصره العاجي، ويتخيّل اليوم، وبطريقة كابوسية مذهلة، المآل الذي ستنتهي إليه انتفاضة السويداء أيضاً.
إحدى محصّلات القيمة الرمزية للأفيش الإرهابي "الأخ الأكبر يراقبك"، باتت تطرح تساؤلات وجودية ملحّة عن عمق الشرّ في ذهنية "الجزّار السوري" وعن طبيعة الأيدولوجيا التي تهندس عملية استخراجه إلى السوريين وبأبشع الصور الممكنة. بهذا المعنى، يبدو أنّ بشّار الأسد ما زال مدفوعاً برغبةٍ جامحةٍ في معاقبة المتمرّدين على سياسته، ليهتفوا له بالطريقة ذاتها التي هتف بها آباؤهم لحافظ بعد فرض سيطرته على المدن التي دمّرها بوحشية مريبة. وبعيداً عن التأطير داخل قوالب جاهزة، يسعنا الإشارة إلى أن طاغيةً لا يُذكر إلّا ويليه اسم مدينة دمّرها أو حاول الاستيلاء عليها. اسم هولاكو اقترن بمدينة بغداد. نيرون مع روما. هتلر مع ستالينغراد. فهل ترتبط مدينة السويداء باسم بشّار الأسد، والتي تبدو انتفاضتها مزحة ثقيلة الظلّ بالنسبة له، رغم خفّتها الاستثنائية في تصوّرٍ مبهرٍ لمملكة اليوتيوبيا السورية المشتهاة؟